عداء النظام الإيراني للسعودية ليس ظرفياً مؤقتاً تحركه أسباب عرضية، بل بنيويا تحتاجه طهران بشكل دائم صوناً لعصبية تضفي شرعية على ديمومة النظام وبقائه.
بقلم: محمد قواص
لا مجال إلا الإقرار أن المملكة العربية السعودية تقود العالم العربي دون منافسة تذكر. لا تدعي الرياض ذلك ولا تتفاخر به، إلا أن الفعل العربي الوحيد سعوديُّ المصدر، يلتحق به رُّد فعل عربي يتفاوت صداه وفق مضمون الأزمات وهوية لاعبيها.
سقطت أنظمة الإيديولوجيا وتحررت الرياض من مناكفات القوميين واليساريين الذين حكموا العواصم العربية في مواسم مختلفة. لم يكن السعوديون يخططون لتبوء الصدارة في سلم الزعامة العربية، لكن ذلك الموقع بدا شاغراً جرى شغله بالتزكية إثر إستقالة الجميع داخل العائلة العربية من لعب أي دور محوري قائد للـ “أمة”.
تنافست القاهرة والرياض وبغداد ودمشق، في العقود الماضية، للإمساك بقرار المنطقة وتدجين نزقها. كانت الخصومة حادّة الملامح مع ناصرية ترفع بيرق العروبة، وتلّوح بشعارات الاشتراكية، وتُقدم نفسها كامتداد لروحية التحالف اليساري العالمثالثي “المناهض للامبريالية والاستعمار”. ارتابت الرياض المتظللة بمنهج حكم محافظ من خطاب الزعيم المصري آنذاك وسلوكه الميداني، وما يهدده من قيّم وما يقوّضه من قواعد لنظام الحكم الملكي في السعودية. روّجت مصر عبدالناصر للوحدة العربية، فروّجت السعودية للوحدة الإسلامية. وفي عدّة التناكف، كان الصدام علنياً، مباشراً تارة وبالوكالة طوراً، وكان سجال لم ينته حتى الآن بين العروبة والإسلام.
في غياب جمال عبدالناصر انكفأت الناصرية ولم يستطع عروبيو دمشق وبغداد وطرابلس-ليبيا.. إلخ أن يشكلوا نداً عملياً أو فكرياً للرياض. بدا أن العامل الإيراني المستجد منذ سقوط الشاه وصعود نظام الوليّ الفقيه، قد غيّر من قواعد اللعبة الإقليمية، بحيث تقادمت بفداحة عدّة الشغل القديمة التي كانت تنافس السعودية وتناكف سياستها. منح التفصيل الأفغاني، في عهد الاحتلال السوفياتي، الرياض دوراً إقليميا – دولياً يتجاوز بمراحل ما كانت تلعبه سابقاً في دوائرها الإقليمية المحددة والمحدودة. وبين موسم سياسي استراتيجي وآخر، وبين فلسفة عهد حاكم وآخر، اندفعت السعودية باتجاه خيارات في إدارة البيت السعودي كما في إدارة علاقاته بالخارج، على نحو ضرب نمطية وأخرج سلوكيات جديدة تظهر حدتُها وجلاءُ بنيتها منذ تبوء الملك سلمان سدّة العرش السعودي.
تعمل الإدارة السعودية الجديدة وفق مشهد دولي لا يشبه ذلك الذي استكانت له المملكة في عقودها الست الأخيرة. لم يعد العالم منقسماً بين شيوعية وليبرالية، سقطت الحدود بين المنطقين، وسقطت بذلك حرب باردة لطالما طاب للكثيرين التحرك وفق أصولها. لم تعد الولايات المتحدة تظلل تحالفاً وجودياً يحمي دولاً ويدافع عن أمم، بحيث باتت دول المنطقة مضطرة إلى إجتراح انماط خلاقة لتعويض “الانسحاب” الاميركي من ثوابت زمن قديم. لم تعد أسعار النفط تتيح ترفاً في قيادة العباد كما إدارة علاقات البلد الخارجية. ووفق تلك البيئة أطلت على المملكة تحديات وأخطار مباشرة لم تعرفها من قبل، وأذا ما عرفت بعضها سابقاً، فأنه مهما كانت جسارتها، فإن الرياض كانت تدرك أنها جزء من تحالف دولي واسع يرعى سلامتها ويجيد حمايتها.
لم يتوقف النظام الإيراني، منذ إقامة الجمهورية الإسلامية، عن الاجهار بخصومة وتهديد للسعودية ونظام الحكم فيها. أرسلت طهران حجاجها غداة الثورة لتحدي السعودية داخل البيت السعودي، ثم أرسلت إرهابييها للضرب داخل الأراضي السعودية، ثم اخترقت كافة الميادين الجيواستراتيجية التي تمثّل مصالح للسعودية في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين وباكستان..إلخ. ولعبت طهران على وتر المذهبية داعمةً، بالقول والعمل، شيعة المنطقة بما يشكله ذلك من عبث مجتمعي داخل المملكة وحلفائها في الخليج. في ذلك أن طهران تحتاج للفتنة لتصليب نظام الحكم في طهران على أرضية حماية كل الشيعة من خطر كل السنّة. بمعنى آخر، فإن عداء النظام الإيراني للسعودية ليس ظرفياً مؤقتاً تحركه أسباب عرضية، بل بنيويا تحتاجه طهران بشكل دائم صوناً لعصبية تضفي شرعية على ديمومة النظام وبقائه.
في مسؤولية طهران عن مقتل الرئيس رفيق الحريري وما يمثله بالنسبة للسعودية، وفي دفاع طهران عن نظام بشار الأسد وما يمثله نظام الأسد ورئيسة للسعودية، وفي دعم طهران لحراك الشيعة في البحرين وما يمثله هذا الجانب للسعودية، وفي الاختراق المنجز داخل العراق واليمن وما يعنيه من حصار للسعودية، ما يقلب هيكل المقاربة السعودية للخطر الإيراني برمته. ظهرت أعراض ذلك في مواقف عبّر عنها قبل سنوات الراحلان الملك عبدالله ووزير خارجيته سعود الفيصل، لكن ذلك الحزم في تعبيرات الرجلين لطالما اعتُبر سلوكاً استثنائياً، فيما بات ذلك الحزم من عجينة السلوك الرسمي العادي للسعودية هذه الأيام.
تقارب السعودية دورها بجرأة ما زالت تفاجئ من كان يعتبر نفسه خبيراً في شؤون المملكة. يكمن دور المملكة في توجيه الأشرعة العربية برمتها والعبور بالمنطقة داخل أنوائها المفصلية الخبيثة. تقود الرياض تحالفاً عربياً في اليمن، في ما بات سلوكاً ناجزاً ينهي الإختراق الإيراني لليمن بما تمثله من خاصرة استراتيجية للسعودية. وتقود الرياض تحالفاً إسلامياً ترتسم ملامحه لمكافحة الإرهاب. ووفق تلك الورشتين تعيد الرياض ترتيب التحالفات الإقليمية وإعادة التموضع في المشهد الدولي العام.
تقترب الرياض من القاهرة على النحو الذي يعلن للداخل والخارج أنه خيار إستراتيجي أكيد. وربما أن الخيار نفسه يحفّز السعوديين على الدفع قدماً بعلاقاتهم مع الأتراك، ففي ذلك ما يرسم ملامح تقارب تعدّ له الرياض بين أنقرة والقاهرة. في تصريحات وزير الخارجية المصري ما لا ينفي ذلك، وفي المقاربات التركية الحديثة ما لا يستبعد ذلك (أنقرة ستوجه دعوة للرئيس السيسي لحضور القمة الاسلامية المقبلة في تركيا). ويتأسس ذلك السعي المحدّث على ثوابت قديمة لطالما جمعت كلاسيكياً السعودية بحلفاء استراتيجيين في الشكل والمضمون (لاحظ تهديد قائد الجيش الباكستاني من أن أي تهديد للأراضي السعودية سيثير ردود فعل قوية من إسلام أباد).
تتمسك الرياض بصيانة علاقاتها الغربية عامة والأميركية خاصة، رغم ما ارتكبته واشنطن لصالح طهران، ورغم مداراة إدارة أوباما لطباع طهران. وتصون الرياض علاقاتها الجديدة مع موسكو رغم تناقض مصالح البلدين في الميدان السوري. على أن البراغماتية السعودية باتت رشيقة تتقن بمهارة نسج التحالفات واحترام التباينات وتدعيم الثابت والتعامل اليومي مع المتغيّر.
تعاملت إيران الولي الفقيه مع الحالة السعودية بفعل يتوقّع ردَّ فعل تسهل مواجهته. وتعامل الغرب مع الحالة السعودية وفق أبجدية معروفة يرتِبُ جُملها مجموعة ممن إعتُبِروا دوماً اختصاصيين خبراء في الشأن السعودي. بيد أن الإطلالة السعودية الجديدة على كافة الدوائر، الخليجية، العربية، الإقليمية والدولية، تفسّر ذلك الإرتباك الذي تقارب به طهران مزاج السعودية الجديد، وتفسّر ذلك الإرتباك الآخر الذي تعبّر عنه العواصم الغربية وإعلامها. لم تغيّر المملكة من ثوابتها لكنها طورت وسائلها وحدّثت أساليبها. حتى الأصدقاء المقربين للرياض باتوا يعيدون قراءة “الحدث” السعودي بعيون تتحرى فهم الأمور وفق قواميس أخرى. ومما كتبته إحدى صحف لندن المنزعجة مؤخراً عن المشهد السعودي الجديد ما يوحي بأن العواصم كانت تستشرف بدقة مقاربات السعودية، وأن نفس العواصم باتت عاجزة عن توقّع ما ستأتي به رياح الرياض.
محمد قواص
صحافي وكاتب سياسي