اجتماع الأضداد الفتحاوية على التغيير، قد يكون هدفه إعادة العافية إلى البيت الفتحاوي وتحضيره ليكون شريكا كاملا ومرجّحا في ترتيبات المرحلة القادمة قيد الدرس.
ليس صدفة أن يتصاعد فجأة عددُ الأصوات المعارضة من داخل الجسم القيادي لحركة فتح، والمنتقدة للحال الفتحاوي الراهن، والداعية إلى إصلاح عاجل. وليس صدفة أن يتقاطعَ خطاب القيادي الفتحاوي محمد دحلان في الخارج مع الخطب التي أطلقها القياديان توفيق الطيراوي وجبريل الرجوب في الضفة الغربية وتلك التي خرجت بها آمال حمد من غزة. لا دلائل على تناغم مقصود ومخطط له بين تلك الأصوات، ولا أعراض ظاهرة تشي بقيام تحالفات تؤسس لتبدّل جوهري في المشهد الفتحاوي العام، لكن الجدلَ يستبقُ إسدال ستار على عهد أبي مازن، والذي بات في العرف الإسرائيلي (وزير الهجرة الإسرائيلي زئيف ألكين) خلف الباب، فيما يستشرف آخرون انهيارا وشيكا للسلطة الفلسطينية.
مرت الذكرى الواحدة والخمسون لتأسيس حركة فتح بداية هذا العام دون عبق استثنائي يُذكر. بدا أن الفتحاويين عاجزون عن استغلال المناسبة لإحداث ضجيج، حتى لو كان القصدُ أن لا يُحدثَ الأمر إلا ضجيجا. بدت المؤسسةُ الفتحاوية ساكنة تمتلكها رتابة لا توقظها إلا قرارات الرئيس في تهميش هذا وإبعاد ذاك وإقالة ذلك. وفيما المنطقةُ تغلي على نار التحوّلات الكبرى، وفيما إسرائيل تشرفُ على قلاقل المنطقة منخرطة في تفاصيلها، تغيب الفتحاوية (والحمساوية أيضا بالمناسبة) عن أي مقاربة تتناول مستقبل العلاقة مع الاحتلال والمحتل، وينحشرُ حراكها النادر في التعاطي مع جدل داخلي يدور في الأغلب حول مزاج “المقاطعة” في رام الله. وحده أبو مازن احتكر الحدث وأطلّ من بيت لحم لتبديد إشاعات مرضه والقول “إني هنا”.
لم تنجح القاهرة في تمرير مصالحة فتحاوية داخلية بين محمد دحلان والرئيس محمود عباس. كان الرئيس الفلسطيني قد عبّر للمصريين عن استعداده للأمر، فيما صدر عن القيادي الفتحاوي من الخارج ما يدعو إلى تصفية القلوب وصون الوحدة. بيد أن بيانا صدر عن اللجنة المركزية لحركة فتح وتصريحا صدر عن الناطق باسمها، نسفا تلك الجهود وأعادا النزاع إلى مربعه الأول. طاب للرئيس التلطي خلف “المعاندة” الفتحاوية الداخلية لإبعاد الكأس المصري، في ذلك أن تركيبة فتحاوية نمت وكبرت وأسست ديمومة مستندة على ذلك الانقسام بين فتح وحماس من جهة، كما على ذلك الانقسام الذي فرّق ما بين أبي مازن وأبي فادي بعد ذلك، وأن لا مصلحة لها باللعب بأمر واقع بات قاعدة من قواعد العمل السياسي الفلسطيني.
تستريحُ السكينة الفلسطينية على جمود عام أصاب القضية الفلسطينية والفاعلين داخلها. تراجع الموضوع الفلسطيني في الأجندات العربية والإقليمية والدولية، ولم يعد استئناف المفاوضات الإسرائيلية من عدمه شأناً يشغلُ عواصم العالم، وهو أمر لا يشغل رام الله وغزة وتل أبيب. حتى “الهبّة” الفلسطينية الأخيرة حُرمت، إلا لماماً، من أي تغطية فصائلية تُذكر تؤطّر حراكها، ولم تُعامل قطّ بصفتها مفصلا بالإمكان البناء عليه. بدت حركة السكاكين متمرّدة على محتل واحتلال، لكنها متجاوزة للجسم الفلسطيني العام بكافة تياراته، ما يفسّر تخلّف ذلك الجسم عن منحها اعترافا جديا، ورفضه اعتبارها حلقة جديدة من تاريخه.
تكسرُ الأصوات الصادحة هذه الأيام النمطية التي سادت العلّة الداخلية لحركة فتح في انقسام بين لجنة مركزية ورئيسها من جهة، وبين القيادي محمد دحلان في الخارج. جرى استخدام الاتهامات واللجوء إلى القضاء لإدارة ردح يستعينُ بكليشيهات الفساد والعمالة والتخوين و”اغتيال” عرفات.. إلخ. يطلُّ الصادحون الجدد مستعيرين حججا وصيغا لطالما غرّد بها محمد دحلان قبل ذلك، على نحو يجعل من تطبيع الخطاب الدحلاني أمراً عاديا في إطار السجال الداخلي العام، ما يطرح أسئلة حول ما إذا كان من علاقة يتمّ نسجها بين المعارض الفتحاوي في الخارج، والمستفيقين الجدد في الداخل.
تستيقظُ فتح على الجدل الجديد وفي الخلفية سؤال حول الحوافز والمآلات والتوقيت. ينشغلُ الداخل الفلسطيني على ما تواتر من كلام يعترض وينتقد ويطالب بالإصلاح. في الورشة ما يشبه سعيا فتحاوي الهوى لاستعادة زمام المبادرة، وإعادة الهمّة إلى الهوية الفتحاوية بصفتها البنية التحتية للسلطة. في ذلك أن زيارة رئيس الوزراء الفلسطيني السابق الدكتور سلام فيّاض إلى غزة مؤخرا أثارت ردود فعل ساخطة قلقة صدرت عن أوساط فتحاوية، موالية ومعارضة على السواء. استشعر البعض في همّة فياض تعبيدا لخلافة عباس، وهو الذي قد يُلمّعُ من حظوظه انقسام فتح وحماس ما يجعل من الرئيس المستقل مخرجا، ويرفع من هذا الاحتمال ما يمتلكه الرجل من علاقات إقليمية دولية.
ليس بالضرورة أن تقرع الطبول الفتحاوية الراهنة ردا على مزامير فياض. وربما في هواجس الفتحاويين مبالغة غير مبررة لا تعدو عن كونها عصبيّة متعجّلة. بيد أن اجتماع الأضداد الفتحاوية على التغيير، قد يكون هدفه إعادة العافية إلى البيت الفتحاوي وتحضيره ليكون شريكا كاملا ومرجّحا في ترتيبات المرحلة القادمة قيد الدرس.
حتى الآن أثبت الرئيس الفلسطيني محمود عباس قدرة على المناورة وتأجيل الاستحقاقات والالتفاف على الأزمات والسيطرة على مفاتيح اللعبة الفتحاوية – الفلسطينية. استند الرجل دائما على مرونة اللجنة المركزية والمجلس الثوري للحركة بين يديه، وعلى وقوف الوجوه القيادية الكبرى إلى جانب خياراته. لكن ما صدر في الأسابيع الأخيرة، في مضمونه وفي هوية مطلقيه، يعكسُ تصدّعا في اللُحمة الفتحاوية العباسية، والتي لا شك تهدد قدرة الرئيس على الإمساك بالخيار الفتحاوي، ويدفعُ الرياح بقوة باتجاه أشرعة المطالبين بعقد المؤتمر العام للحركة. ولا ريب أن خروج شخصيات عن طاعة الرئيس ينذرُ بتمدد الشقوق داخل الجسم الفتحاوي ويجعل الانقسام أخطر عبثا بهيبته.
تحظى معارضة محمد دحلان بدعم إقليمي رديف لا تخفيه القاهرة. باتت تسوية البيت الفلسطيني الداخلي شأنا يتعلق بأمن مصر الإستراتيجي، سواء في إطار مصالحة فتحاوية فتحاوية يكون دحلان شريكا كاملا داخلها، أو في إطار مصالحة فتحاوية حمساوية يعمل دحلان على أن يكون عرابها. ومن مفارقات الزمن أن يصدر عن حماس ردّ فعل إيجابي على مبادرة المصالحة التي دعا إليها دحلان مع حماس، فيما صدر عن فتحاويين قريبين من الرئيس عباس ما اعتبر المصالحة مع دحلان مستحيلة.
ولئن تواصلت القاهرة مع عدد من أعضاء اللجنة المركزية بشكل منفرد غداة بيان المركزية الرافض لمصالحة دحلان وعباس، فإن ما أُدلي به مؤخّرا من قبل شخصيات فتحاوية قد لا يعدو عن كونه صدى لجهود مصر، كما جهود قوى إقليمية رديفة، في ترتيب البيت الفلسطيني في موسم ما بعد “الربيع” العربي وما بعد الانقسام في غزة وما بعد عهد الرئيس في رام الله. ينبغي أيضا ملاحظة أن دعوات الإصلاح داخل فتح والداعين إليها يرافعون بضرورة رأب الصدع مع حماس، على ما يوحي أن تلك المصالحة تتطلب أيضا طيّ صفحة أبي مازن وتعبيد الطريق الفتحاوي لإعادة تشكّل السلطة الفلسطينية بشراكة مع حماس.
أن تُعقد اجتماعات عاجلة في إسرائيل لاستباق احتمالات انهيار السلطة، وأن تحذّر واشنطن جديا من تلك الفرضية (وفق تصريحات جون كيري في مؤتمر سابان المنعقد الشهر الماضي في واشنطن)، يستدعي مقاربة جديدة تنخرط فيها دوائر القرار في المنطقة والعالم. ولا شك أن في البيت الفتحاوي، في الداخل والخارج، من التقط رياح التحوّلات المطلوبة فلسطينياً، وأدرك أن الحرث بات ينتج ثمرا.