مع بدء تطبيق الاتفاق النووي تدخل إيران مرحلة جديدة. تحمل عودتها إلى الساحة الدولية تغييراً جوهرياً للمشهد الاستراتيجي في الإقليم. لكن هذا التغيير يظل تدريجياً ورهناً بخيارات طهران المقبلة، على مستوى الداخل والخارج. فالنجاح الذي حققته حكومة الرئيس حسن روحاني أعاد تحريك السياسية الداخلية. وخلط الأوراق في أوساط الكتل والقوى المختلفة في الجمهورية الإسلامية. لكنه لم يحسم الأمر لمصلحة تيار الاعتدال. والذين راهنوا على الاتفاق قوة دافعة لاستعجال الاصلاح في بنى النظام قد ينتظرون طويلاً، مثلما انتظروا سنوات للتوصل إلى تسوية للبرنامج النووي. ومن المفيد ألا يتوقعوا الكثير من انتخابات مجلس الشورى ومجلس خبراء القيادة الشهر المقبل. أو حتى من الانتخابات الرئاسية السنة المقبلة. الحراك أو الصراع بين التيارات المختلفة سيستمر. والقوى التي كانت تمسك بعصب الاقتصاد وتهيمن على السياسة الخارجية والقرارات العسكرية والأمنية لن تتساهل بتحجيم دورها أو ضرب مصالحها. لكن رفع العقوبات سيخلق دينامية سيعزز دعوات الانفتاح. من هنا لا يزال المرشد الأعلى السيد علي خامنئي يمارس دوراً دقيقاً لا يغلب تياراً على آخر. دعم الفريق المفاوض لبلاده وقدم له غطاء كبيراً. لكنه في المقابل لا يزال يحذر من الساعين إلى استعجال الانفتاح السياسي على الولايات المتحدة والغرب عموماً. وينم ذلك عن عمق الصراع على مستقبل النظام ووجهته الجديدة ودوره في المنظومة الدولية.
التعامل السياسي لطهران مع جملة من الأحداث أخيراً تظهر عمق الخلاف في وجهات النظر. والتباين في قراءة هذه الأحداث. المرشد الأعلى وقادة في «الحرس الثوري» والتيار المتشدد حملوا على المملكة العربية السعودية بعنف. وتوعدوها بـ «انتقام شديد»، إثر إعدام رجل الدين الشيعي نمر النمر مع مجموعة من المدانين بأعمال إرهابية. لكن حكومة روحاني تصرفت بخلاف جاري العادة. دانت الاعتداء على مقر السفارة السعودية في العاصمة ومقر القنصلية في مشهد. وأقالت مسؤولين كبيرين حملتهما مسؤولية ما حدث. وأوقفت عدداً من مهاجمي المقرين وأحالتهم على القضاء. واستعجل الرئيس محاكمة هؤلاء «من أجل وضع نهاية حاسمة لكل الإساءات والأضرار التي لحقت بكرامة إيران وبالأمن الوطني». ولم تمض ساعات على اعتقال «الحرس» بضعة جنود من البحرية الأميركية ضلوا وجهتهم في مياه الخليج ودخلوا المياه الإقليمية الإيرانية خطأ، حتى أطلقوا. وهو ما اعتبره وزير الخارجية الأميركي جون كيري من ثمار التحول الجديد والاتفاق النووي والخطوط المفتوحة بين واشنطن وطهران. وفي هذا الإطار أيضاً جاء تبادل إطلاق سجناء بين البلدين.
هذا التباين في القراءات والمواقف في الداخل الإيراني، يعني أن النظام يواصل نهج سياسة امتلاك الشيء ونقيضه. تدرك الجمهورية الإسلامية أنها ستكون تحت رقابة صارمة لمجلس الأمن لتحديد مدى التزامها تنفيذ بنود الاتفاق. أي أن سيف العقوبات الاقتصادية سيظل مسلطاً فوق رأسها. وقد لا تستطيع في المدى المنظور التملص أو الالتفاف على بنود الاتفاق النووي، هي الموعودة برفع العقوبات. والواعدة للدول الغربية بصفقات اقتصادية واستثمارية مجزية. لكن ما يقلق أهل الإقليم خصوصاً أن تشعر طهران بأن وفاءها بالتزاماتها في هذا الإطار يمنحها تفويضاً مطلقاً في مواصلة سياساتها السابقة، داخلياً وخارجياً. فليس قليل الدلالة أن تشكف قبل ايام ترسانتها الصاروخية الضخمة التي تغطي الشرق الأوسط كله، وتشكل تهديداً لمنابع النفط وممراته، فضلاً عن حدود الاتحاد الأوروبي القريبة. وليس قليل الدلالة أيضاً أن يكرر قائد «الحرس الثوري» محمد علي جعفري تدريب قواته نحو مئتي ألف مقاتل من أبناء الإقليم وباكستان وأفغانستان. وهاتان رسالتان صريحتان أنها لا تنوي التخلي عن سياستها الخارجية في المنطقة. وإذا كانت تولي برامجها العسكرية هذا الاهتمام، على رغم الحظر الدولي على الأسلحة التقليدية والصواريخ الباليستية حتى 2020 و2023، فإن من غير الجائز والمقبول أن تتوسل هذه القوة معطوفة على «ميليشيات» رعت قيامها في عدد من الدول العربية، أداة لتوكيد أرجحية دورها وسيطرتها على الشرق الأوسط ودول الجوار القريب والبعيد.
مواصلة هذا النهج يعني أن الفوائد المالية والاقتصادية التي ستجنيها إيران بعد تطبيق الاتفاق ستتيح لها تعزيز «استثماراتها» في الإقليم. ويعني أيضاً أن عودتها إلى المجتمع الدولي لن تحول دون مواصلة اعتمادها على ما دأبت عليه منذ قيام ثورتها قبل ثلاثة عقود ونصف عقد. فقد اندفعت أولاً نحو «تصدير الثورة». لكن الغرب واجهها مع القوى الإقليمية التي وقفت خلف صدام حسين في حرب الخليج الأولى. لكنها لم تستسلم. لجأت كما هو معروف إلى بناء شبكة من «الجيوش» المحلية في دول الجوار شكلت لها رافعة عوضت غياب دورها عن التأثير في السياسات الإقليمية والدولية. وساهمت في تأجيج الصراع المذهبي المتصاعد. وبعدما أفادت من الغزو الأميركي لأفغانستان ثم العراق، تسعى جاهدة لملء الفراغ الناجم عن قرار الولايات المتحدة تحويل ثقل استراتيجيتها إلى المحيط الهاديء. ويساعدها بالطبع اضطراب النظام العربي وتهاويه على وقع عواصف «الربيع». وغياب القوة الجاهزة والمنظمة لملء الفراغ في الإقليم. مثلما يساعدها أيضاً تعثر الحرب على الإرهاب في سورية والعراق وأفغانستان… فضلاً عن تلاشي أي أمل بتسوية القضية الفلسطينية التي عولت عليها كثيراً رافعة لنفوذها في الشارع العربي.
ولا شك في أن سياسة الإدارة الأميركية ساعدت هي الأخرى في تمادي هذا النهج الإيراني الذي أقلق ويقلق حلفاءها وشركاءها العرب وغير العرب. كانت واشنطن تحذر في السنوات الماضية من أن تفلت طهران من
التزاماتها الدولية في البرنامج النووي و»دعمها الإرهاب» يشكلان تهديداً إقليمياً ودولياً، ومن أن امتلاكها سلاحاً نووياً سيغيّر صورة المنطقة ويطلق سباق تسلح نووي، ويفاقم النزاعات، ويعزز الإرهابيين والمتطرفين. وعلى رغم أن المنطقة تشهد اليوم كل ما كانت تحذر منه أميركا، لا تبدي إدارة الرئيس باراك أوباما، أي اهتمام بدفع إيران إلى التخلي عن طموحاتها في الدول العربية. والعمل على إقامة نظام أمني جديد في الشرق الأوسط يراعي المصالح العربية والإيرانية والتركية وغيرها. وليس كافياً بالطبع أن يؤكد وزير الخارجية الأميركي لنظيره السعودي عادل الجبير قبل يومين أن الصداقة بين بلديهما «تظل حجر الأساس لجهودنا في المنطقة». وأنه يتحدث دائما مع نظيره الايراني محمد جواد ظريف عن وجوب «عدم التدخلات» وعن «السعي إلى السلام والاستقرار». هذا الموقف تلزمه ترجمة فعلية. واشنطن التي ألقت صراحة مهمة علاج أزمات المنطقة على عاتق أهلها تبدو سياسة انتقائية. فهي لا تبدو مبالية بما حدث ويحدث في اليمن. وهو ما دفع السعودية إلى أخذ الأمر بيدها. كما أنها في حربها على «داعش» في العراق تظهر حرصاً على عدم إزعاج «الحرس الثوري» وميليشياته المحلية، من خلال حرصها على التنسيق مع حكومة حيدر العبادي. فضلاً عن أنها لم تفعل شيئاً للتخفيف من غلواء قوات «الحشد الشعبي» باستثناء التركيز على دعم قوات العشائر و»البيشمركة». وفي سورية أسلمت القياد لرغبات روسيا ومواقفها من التسوية، متجاهلة ما تمخض عنه مؤتمر المعارضة السورية الواسع في الرياض تمهيداً لمفاوضات مع النظام. وهو ما أثار حفيظة بعض شركائها الغربيين وتركيا وليس استياء السعودية والعرب الآخرين فقط.
ويخشى أن تجد الولايات المتحدة نفسها أخيراً مرغمة على الانخراط في الصراع المحتدم في الإقليم، والذي سيلحق ضرراً كبيراً بمصالحها وعلاقاتها وحضورها قوة دولية كبرى. فالتوتر بين السعودية ودول عربية كثيرة من جهة وإيران من جهة أخرى بلغ ذروة لم يشهدها من قبل، وينذر بالتفاقم. ما يعني أن الأزمات التي تشكل ساحة مواجهة بينهما لن تشهد حلولاً ناجزة أو حتى تهدئة معقولة. صحيح أن طهران تملك أوراقاً وأدوات توسلتها رافعة في علاقاتها الخارجية، مع الحلفاء أو الخصوم. لكن هذه الأوراق تحترق تباعاً. في اليمن يواجه الحوثيون حرباً تعدها السعودية مصيرية ومفصلية. وهي لن تهدأ حتى يرضخ «أنصار الله» وأنصارهم وينتظموا في إطار الشرعية التي تمثلها حكومة عبد ربه منصور هادي. لا يمكن الرياض، اياً كانت النتائج ومهما طالت الحرب، أن تقبل بقيام «جيش رديف» على حدودها يناصبها العداء، ويساهم في تطويقها. كما أن العراق لم يسقط كاملاً بيد الجمهورية الإسلامية. بل بات عنصر استنزاف دائم لطهران سياسياً وعسكرياً. فلا السنة رضخوا بل يهددون بتدويل «اعتداءات» «الحشد الشعبي» عليهم. والتهديد الذي شكله ويشكله قيام «الدولة الإسلامية» قريباً من الحدود الإيرانية قائم وطويل. وفي سورية حيث استثمرت إيران الكثير في النظام الحالي، تنظر طهران بعين الريبة إلى موسكو التي انتزعت منها عصا الإمرة. ولم يعد بامكان «ميليشياتها» في بلاد الشام أن تنازع القوات النظامية دورها وحضورها خصوصاً بعد وصول المدد الروسي. والحديث طويل عن هواجسها من التسوية التي يرسمها الكرملين بالتنسيق مع واشنطن.
إلى كل هذه المتاعب، قد لا يثمر رفع العقوبات الكثير من العائدات التي تتوخاها إيران. تدني أسعار الطاقة ألحق ويلحق أضراراً قاسية بها كما بباقي الدول المنتجة. فكيف لها أن تعول كثيراً على رفع صادراتها وفتح الباب أمام استثمارات أجنبية كانت أحجمت بفعل العقوبات التي فرضت عليها تباعاً منذ نحو عقد من الزمن؟ والسؤال هل يرجح الإيرانيون كفة تيار الاعتدال والإصلاح تدريجاً ليخرجوا من ضائقتهم الاقتصادية ومن طوق العداء المحيط؟ وإذا كانت واشنطن لا ترغب في الدفع نحو استعجال التحول في الجمهورية الإسلامية لئلا ينتج مردوداً عكسياً ويعزز كفة المتشددين، فلماذا لا تنخرط قبل فوات الأوان في إعادة بناء علاقات سوية وندية بين الجمهورية وجيرانها. وهذا خير سلاح لمحاربة الإرهاب؟
– See more at: http://elaph.com/Web/NewsPapers/2016/1/1067357.html#sthash.STfQi6lT.dpuf