بعد ساعات من إعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية مساء السبت الماضي أن إيران التزمت بالحد من أنشطتها النووية تنفيذاً للاتفاق الذي وقعته مع القوى الكبرى في يوليو الماضي، خرج الرئيس الايراني حسن روحاني بتصريح قال فيه أنه بلاده “فتحت فصلاً جديداً” لعلاقاتها مع العالم، وهذا بالفعل ما يفترض أن يكون بعد كل هذه السنوات التي رزح خلالها الاقتصاد الايراني تحت وطأة العقوبات.
لن نبكي الآن على اللبن المسكوب ولن نقول ماذا استفادت إيران بعد كل هذه السنوات التي انتهت بالتخلي عن أنشطتها النووية، التي تسببت في حرمان ملايين الايرانيين العيش الكريم وجني ثمار الثروات والموارد التي تتمتع بها بلادهم (العقوبات الدولية المفروضة على إيران كلفتها أكثر من 160 مليار دولار من عائدات النفط منذ عام 2012)، وهي موارد إما خضعت للتجميد بسبب العقوبات أو وجهت وجيشت لمصلحة “عسكرة” البلاد واستقطاب وكلاء لهم في دول ومناطق شتى من العالم، تحقيقاً لأجندة ومشروع توسعي قومي يحاول الملالي إظهاره بمظهر ديني شيعي.
المهم الآن أن العقوبات قد رفعت بحسب ماتردد في تصريحات القادة الغربيين، وطهران تقول أنها ستفتح صفحة جديدة مع العالم، وهو أمر ايجابي في ظاهره، ولكنه يثير بداهة تساؤلات مشروعة حول السلوك الايراني خلال الفترة المقبلة: هل تتجه إيران إلى أن تصبح قوة أمن واستقرار اقليمي ودولي كما قال بذلك الاتحاد الأوروبي؟ وهل تخلت طهران بالفعل كلياً عن طموحاتها النووية أم لا يزال في جعبتها بعض الخطط السرية الخاصة بالانتقال إلى التسلح النووي واستغلال الخبرات التي اكتسبتها طيلة السنوات الماضية، ومخزونات اليورانيوم المخصب التي أفلحت في اخفائها عن عيون مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية؟.
الحقيقة أن فكرة الرقابة الدولية على المنشآت النووية هي فكرة عقيمة من الناحية الواقعية، فهي تقوم على التيقن من صحة ودقة معلومات تحصل عليها الوكالة من الدول المعنية نفسها (!) ومن ثم يصبح قرار الوكالة بشأن التزام هذه أو تلك من الدول هو قرار صحيح من الناحية القانونية، ولكنه واقعياً قد لا يعكس الحقيقة التي تتوقف على خبرات وقدرات الدول المعنية على التملص والمناورة والاخفاء والتهرب من عيون الرقابة الدولية. وقد يعتقد البعض أن وسائل الرقابة المتطورة من أقمار صناعية وخلافه قادرة على رصد الأنشطة النووية للدول كافة، وهذا أمر صحيح ظاهرياً أيضاً، ولكنه يعجز في مواجهة آليات التهرب التي يصعب حصرها، والتي تبدأ بالمنشآت النووية السرية وما يرتبط بها من عمليات تمويه واخفاء، وتمر بكم كبير من وسائل التملص، وهذه مسائل معروفة ومتداولة في نادي الدول المارقة التي ظلت لسنوات ـ وربما لا تزال ـ تمارس أنشطة نووية وتسليحية محظورة بمعزل عن قواعد الرقابة الدولية، ومن بينها بطبيعة الحال إيران والقائمة تتسع لتضم كوريا الشمالية واسرائيل وغيرها.
وإذا كان رفع العقوبات يعني بالتبعية انهاء تجميد أصول إيرانية تقدر بمليارات الدولارات والسماح ببيع النفط الايراني في الأسواق العالمية، فإن هذا الأمر يمثل في جانبه الآخر اختبار نوايا حقيقي للقيادة الايرانية، التي تزعم فتح صفحة جديدة في علاقاتها الدولية، وهنا يثور التساؤل أيضاً: هل تتجه هذه القيادة إلى تبني سلوك دولي رشيد وتبتعد عن السياسات التي ظلت طويلاً أحد أسباب الاضطراب وانعدام الأمن الاقليمي والدولي؟ وهل توجه هذه المليارات التي ستضخ في الخزانة الايرانية الفترة المقبلة لمصلحة الشعب الايراني وتنمية اقتصاد البلاد، أم سيتم انفاقها على “الوكلاء” والميلشيات التي تخوض حروب بالوكالة لمصلحة تنفيذ أجندة النظام الايراني على الصعيد الاقليمي (تشير بعض التقديرات إلى ان أرصدة إيران المجمدة في البنوك العالمية تبلغ نحو 100 مليار دولار، في حين ذكرت صحيفة تلجراف البريطانية أن 10% فقط من أموال إيران المجمدة تساوي ثمانية أضعاف التمويل الإيراني السنوي لحزب الله) ؟
ما يدعوني إلى الشك بقوة في أن فرص تحقق سيناريو “انعاش خزائن الميلشيات” التابعة لإيران هو الأقوى من وجهة نظري، أن القيادة الايرانية تمتلك مشروعاً توسعياً تعكسه تصريحات مسؤوليها ومن بينهم علي يونسي مستشار الرئيس روحاني الذي قال منذ أشهر عدة أن بلاده تنوي تأسيس “اتحاد إيراني” في المنطقة، مفسراً ذلك بقوله “لا نقصد من الاتحاد أن نزيل الحدود، ولكن كل البلاد المجاورة للهضبة الإيرانية يجب أن تقترب من بعضها بعضا، لأن أمنهم ومصالحهم مرتبطة ببعضها بعضا” ويضيف يونسي “لا أقصد أننا نريد أن نفتح العالم مرة أخرى، لكننا يجب أن نستعيد مكانتنا ووعينا التاريخي، أي أن نفكر عالمياً، وأن نعمل إيرانيا وقومياً”، وهذا الكلام قد يبدو غامضاً للبعض، ولكنه واضح وضوح الشمس وتترجمه تحركات إيران الاقليمية خلال الفترة الأخيرة، حيث سعت إلى تطويق دول مجلس التعاون استراتيجياً عبر وكلائها في الشمال (العراق وسورية وحزب الله في لبنان) والجنوب (ميلشيات الحوثي) ناهيك عن التحريض المستمر للمواطنين الشيعة في دول الجوار، والزعم بأنهم مضطدون في دولهم وأن إيران تدافع عن هؤلاء “المظلومين”!! ناهيك عن نشر الوكلاء والميلشيات والتدخل المتواصل في الشؤون الداخلية لدول الجوار.
البيت الأبيض من جانبه يبدو سعيداً باتمام الاتفاق النووي، الذي يعتبره الرئيس أوباما بوابته الرئيسية لدخول التاريخ، وتكرار تجربة الرئيس الأمريكي الأسبق نيسكون مع الصين في السبعينيات من القرن الماضي، لكن المؤسسة التشريعية الأمريكية تبدو متوجسة وقلقة إزاء هذا الاتفاق، فقد أدان رئيس مجلس النواب الأمريكي بول ريان الاتفاق مع إيران، وقال نصاً إن “الدولة الرائدة عالميا في رعاية الإرهاب قد تستخدم الأموال لتمويل إرهابيين”، وبغض النظر عن حسابات ودوافع خلاف المواقف بين مؤسسات الحكم الأمريكية حيال الملف الايراني، فإنه بشكل عام يعكس وجود توجس عميق لدى الكثيرين حول حقيقة طي صفحة السلوك الايراني، الذي اتسم بالبلطجة الدولية والاقليمية طيلة العقود والسنوات الماضية.
صحيفة “الجارديان” البريطانية من جانبها، قالت أن المرشد الأعلى علي خامنئي ربما اتخذ قراراً استراتيجياً بالتضحية ببرنامج إيران النووي للتخلص من ضغوط العقوبات الدولية التي اهلكت الاقتصاد الايراني، وعلى الصعيد العملي هناك ذوبان للجليد في علاقات إيران مع الولايات المتحدة وقد تمثل ذلك في صفقة تبادل السجناء التي جرت منذ أيام، وعشية الاعلان عن رفع العقوبات الدولية المفروضة على إيران، ولكن كل هذا لا يضىء درباً للمستقبل المنظور، ولا يرسم مساراً مؤكداً للعلاقات المعقدة بين طهران وواشنطن، لاسيما في ظل مخاوف النظام الايراني الحقيقية من عواقب الانفتاح على الغرب، وما يعينه من احتمال قوي لانهيار النظام من داخله بفعل ذلك، فالمعروف أن الملالي قد تحصنوا طيلة سنوات مضت وراء شعارات العداء مع العالم، فهل يستطيعون الآن العيش في وضح النهار، والتكيف مع فكرة الانفتاح والانتقال من مربع العوالم السرية التي ظلوا يديرون السياسة الايرانية من داخلها إلى مربع الشفافية والعلن والالتزام بقواعد القانون الدولي؟
شخصيا اتشكك في ذلك، بل في صمود الاتفاق ذاته ليس لشىء سوى لأن الملالي لا يجيدون سوى العمل في الظلام وعبر الوكلاء، ولن يتخلوا بسهولة عن أحلامهم في استعادة أمجاد الامبراطورية الفارسية، وفي مجمل الأحوال ليس أمامنا سوى ترقب صفحة إيران الجديدة مع العالم وكيف تستهلها وماذا ستكتب فيها؟ وهل سيكون السعي إلى الامن والاستقرار بالفعل أو اللون الأبيض أحد سماتها، أم سيغلب عليها لون دماء الأحمر المفضل لدى قادة النظام الايراني؟