كانت ثورة 25 يناير المصرية عملاً شبابياً، من حيث الإعداد، والتنفيذ، والصمود، والتضحيات. ولكن السنوات الأربع التالية (2011-2015) شهدت تراجعاً لمُشاركة الشباب فى العمل العام، ثم عزوفاً، إن لم يكن قطيعة كاملة.
وقد تجلت تلك القطيعة فى الانتخابات النيابية الأخيرة (نوفمبر – ديسمبر 2015). فقد لاحظ مُراقبو مركز ابن خلدون، كما مُراقبون عرب وأجانب آخرون أن الشباب كانوا هم الأكثر مُقاطعة.
فبرغم أن 75 فى المائة ممن لهم حق التصويت، لم يُمارسوا هذا الحق فى تلك الانتخابات، إلا أن نفس النسبة كانت حوالى 90 فى المائة بين الشباب (18- 39 سنة). وهى نسبة مُروعة تستدعى من الرئيس عبدالفتاح السيسى وكبار مُعاونيه الدعوة إلى مؤتمر قومى يتحدث فيه الشباب، وينصت فيه الكهول (40- 60 سنة) والعجائز (فوق الستين).
إن لعُلماء الاجتماع مقولة فى هذا الصدد، وهى أن الشباب هم نصف الحاضر، وكل المستقبل. والمُشاركة السياسية للشباب بهذا المعنى هى المُعادل الوظيفى لبناء المستقبل. فهل عزوف الشباب عن المُشاركة فى الانتخابات هو مؤشر سلبى أو نذير شؤم لما يمكن أن تحمله الأيام لمصر والمصريين؟
إن هذا الخاطر لا يتفق مع طبيعتى المُتفائلة، لذلك كنت أفتش فى المشهد المصرى العام عما يُعيد التفاؤل إلى النفس. فأعدت تحليل الأرقام والنسب لمن شاركوا فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة، مُقارنة بمثيلاتها فى السنوات الأربع الأخيرة، فاتضح لنا عدة تفسيرات مُمكنة، أهمها:
1ـ حالة التعب والإجهاد السياسى. فقد طُلب من المصريين أن يتوجهوا إلى صناديق الاقتراع أو الانتخاب سبع مرات فى السنوات الأربع الأخيرة ـ ما بين استفتاءات على الدستور، أو تفويضات لرئيس الجمهورية لمواجهة الإرهاب، إلى انتخابات لرئاسة الجمهورية، إلى انتخابات على مراحل لمجلس النواب (البرلمان). ولا شك أن ذلك قد أصاب قطاعاً كبيراً من الناخبين بالتعب والمَلل، فآثروا الامتناع عن المُشاركة.
2ـ تعقيدات العملية الانتخابية نفسها، طبقاً للقانون الجديد لمُباشرة الحقوق السياسية، حيث كان على الناخب أن يصوّت مرتين، إحداهما لقائمة تضم عدة أحزاب أو تحالفات أو حركات، وثانيتهما لأحد المُرشحين الأفراد. هذا فى الوقت الذى لم تكن فيه تلك الأحزاب أو الجهات قد تبلورت بالشكل الكافى، الذى يُتيح للناخب اختياراً يتسق مع توجهاته السياسية أو مصالحه الاجتماعية والطبقية.
3ـ ما أشيع فى وسائل الإعلام الخاصة عن أن قائمة «فى حُب مصر» هى التى سيعتمد عليها، عبد الفتاح السيسى، رئيس الجمهورية، وأن أجهزة الدولة تدعمها. وهى بالتالى التى ستفوز بصرف النظر عن تنوع الاختيارات الفردية فى عملية الاقتراع، فآثر قطاع كبير عدم تكليف خاطره بالذهاب إلى صناديق الانتخابات، ما دامت النتيجة معروفة سلفاً!
4ـ سعى الإخوان المسلمين لإفساد العملية الانتخابية كجزء من حربهم الاستنزافية لتقويض نظام السيسى، الذى يعتبرونه الآن، عدوهم الأول. وبما أنهم وأنصارهم يتحكمون فى حوالى 20 فى المائة من الشارع السياسى، فيمكن القول إن تلك النسبة (أى 20%) قد أسهمت فى انخفاض النسبة العامة للمشاركين.
هذا وقد رصد مُراقبو مركز ابن خلدون وجمعيات حقوقية أخرى، ليس فقط الغياب الصاخب للشباب (تحت سن الأربعين) من طوابير الناخبين، ولكن أيضاً غلبة كبار السن، أى الكهول (40-60 سنة) والعجائز (فوق الستين) فى تلك الطوابير. وهو ما نوّه بشأنه تقرير المركز بمُلاحظته أنه إذا كان الشباب هم الذين قاموا بالثورة، فإن الكهول والعجائز هم الذين أنقذوها سياسياً!
ولكن فضلاً عن أرقام ونسب المُشاركة وتفسيرات انخفاضها، أثار نفس تقرير مركز ابن خلدون سؤالاً أكبر حول شرعية البرلمان القادم.
فبينما شهد كل المُراقبين على نزاهة الانتخابات، إلا أن انخفاض نسبة المُشاركة تُثير تساؤلات عدة حول شرعية، وليس قانونية البرلمان، فالبرلمان تم انتخابه بنزاهة، لذلك لا يمكن الطعن فى قانونيته.
ولكن برلماناً لم يُشارك فى اختياره إلا 26 فى المائة فقط من الناخبين، أى رُبع الناخبين، يمكن الطعن فى شرعيته.
والشرعية هنا تعنى الاعتراف بأحقية أى مؤسسة فى أن تمارس دوراً فى الحياة العامة، وقبول النتائج التى تترتب عليها. وبهذا المعنى فإنه رغم قانونية البرلمان المصرى الذى تم انتخابه فى نهاية عام 2015، إلا أن شرعيته ستكون شرعية مُهتزة. وهنا نجد مُفارقة عميقة. فمن ناحية يُعطى الدستور البرلمان سُلطة أكبر مما كان مُعتاداً فى البرلمانات السابقة، على حساب السُلطة التنفيذية، أى على حساب رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء من الناحية الإجرائية، إلا أن شرعية هذا البرلمان، كما رأينا هى شرعية مُهتزة. وهذه المُفارقة هى التى تجعل احتمالات حل البرلمان هى الأكثر ترجيحاً، خاصة بعد أن يُقر البرلمان القوانين التى أصدرها الرئيس السيسى بمرسومات رئاسية. وكذلك بعد أن يُقر البرلمان الاتفاقات والمُعاهدات التى وقّعتها الحكومة بالأحرف الأولى مع أطراف خارجية، وخاصة تلك التى تم الإعلان عنها فى مؤتمر القمة الاقتصادية بشرم الشيخ فى مارس الماضى.
ولو حدث ذلك، فلا بأس. ويكون البرلمان ذو شرعية الستة والعشرين فى المائة قد أدى دوراً مشكوراً، وتعود عجلة الحياة السياسية المصرية إلى الدوران، وربما بحيوية أقوى، ومُشاركة أوسع، وهو المطلوب، وهو المرغوب.