دأب سليمان فرنجية، ومنذ أن أطلَّ على العمل السياسي في لبنان على تبرير تميّز موقفه بأنه دفاع عن العروبة والخطّ العروبي في البلد. وما زال الرجل في معرض تبرير التصاقه بشخص بشار الأسد، يعلل الأمر بأنه خيار عروبي في الأصل، يتحالف مع حزب الله وفق تعريفه المقاوم في الفرع. وما بين الأصل والفرع يكمن التحفّظ الحالي المفاجئ الذي يعبّر عنه الحزب إزاء ترشّح فرنجية لرئاسة الجمهورية في لبنان.
في إظهار خريطة فلسطين موشّحة بألوان العلم الإيراني خلف السيّد حسن نصر الله أثناء “إطلالته” التي تلت مقتل سمير القنطار، ما يفصح بشكل جليّ عن موقف حزب الله من العروبة. فلسطين في سياق الحزب شأنٌ إيراني منذ أن تبنى الخميني “القضية” ورفع لها يوما للقدس، ومنذ أن أصبحت نخب الحرس الثوري تُكنى بـ”فيلق القدس، ومنذ أن وعدَ محمود أحمدي نجاد بإلغاء إسرائيل من الخارطة، ومنذ أن بات تماسُ الحزب مع إسرائيل تماسا إيرانيا مباشرا مع إسرائيل جنوبا والبحر الأبيض المتوسط غربا.
أفلحت طهران في انتزاع “قضية العرب الأولى” من أيدي العرب واحتكرتها خطابا وموقفا من اللوازم الضرورية لصراعاتها الإقليمية والدولية. لم يكن التقدم الإيراني باتجاه المنبر الفلسطيني وليد مهارة أو إقدام أخلاقي، بل ثمرة استقالة جماعية عربية عامة وتواطؤ البعض مع إيران في هذا المضمار خاصة، فجرى تلفيق الأمر دون كثير عناء.
تولّت دمشق رفد الجهد الإيراني لفرض حزب الله واحتكاره للمقاومة في جنوب لبنان وسحبها من أيدي تلك اللبنانية التي راجت بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. رفع النظامُ السوري الغطاء عن أي فصيل مقاوم منافس لحزب الله، ما أتاح عمليات اغتيال وتصفية طالت شخصيات قيادية يسارية، كما قيادات عسكرية للمقاومة اللبنانية، على ما فُهم حينها بأنه قرار سوري إيراني لتشييع المقاومة وحرمانها من أي واقع وطني عابر للطوائف.
بات واضحا في ثمانينات القرن الماضي أن المواجهة الدموية حسمت الصراع داخل الطائفة الشيعية في لبنان بين الخيار العربي الذي كانت تمثّله حركة أمل المتحالفة مع دمشق والخيار الإيراني الذي ما زال يمثّله حزب الله المتحالف مع طهران. بدا أن لغةَ السلاح مذ ذاك هي الطريق المباشر لفرض رؤى الحاكم الإيراني على المشهدين اللبناني والسوري. ولا بد أن التسليم بالأمر الواقع دفع “القوميين العرب” للتدثّر بالعباءة الإيرانية بانتظار توفّر عباءات أخرى مواتية.
في موسم محاكمة الإسلام السياسي ومدى مسؤوليته عن تفاقم ظاهرة الإرهاب في العالم، وفي موسم المواجهة الشيعية السنّية في ميادين متعددة في المنطقة لا تبدأ باليمن ولا تنتهي بباكستان، وفي موسم تناكف المنطق العروبي مع ذلك الإيراني المتأسس على قاعدة فارسية، تبدو الفكرة العربية التي لطالما التصق قوميّوها في العقد الأخير بـ”الثورة الإسلامية”، وجعلتها إيران بيدقا من بيادقها، بعيدة هذه الأيام، على نحو علني مقصود، عن أولويات الحاكم في طهران.
يكفي تأمل مواقف شخصيات سنيّة معروفة في قربها من طهران ودمشق في دعم السعودية في الحرب في اليمن، ويكفي تأمل التآلف العربي (حتى في شكله المظهري) في دعم التحالف العربي في اليمن وذلك الإسلامي ضد الإرهاب المعلن حديثا من الرياض، كما يكفي تأمل الجهد العربي المباشر داخل الورشة الدولية لحلّ الأزمة في سوريا، لاستنتاج تلك العزلة التي تعيشُها إيران عن العرب والعروبة.
تُظهرُ خريطة فلسطين الموشّحة بالعلم الإيراني عزما إيرانيا على التحلل من المصطنع في مواقف طهران وإبراز ما هو حقيقي وأصيل في فلسفة الحكم الإيراني. تبدو طهران من خلال ذلك المشهد وذلك الإخراج بحاجة لاستعادة المنبر الفلسطيني، لعلها تعيدُ بتوق اختراق الساحة الفلسطينية التي فقدتها بتعليقها التحالف مع حركة حماس كرمى لعيون بشار الأسد في دمشق. يريد السيّد والحزب من خلال نفس المشهد الإعلان عن إطلالة إيرانية مباشرة على الشأن الفلسطيني من خلال التعذّر بمقتل سمير القنطار، بصفته منتجا إيرانيا تمّ قتله لهذا السبب. ولأن التراجعَ الإيراني المسجّل في كافة ميادين نفوذها بات حقيقيا (بما في ذلك في سوريا)، فإن إيرانية مسعى طهران بالمعنى القومي أضحى بيرقا لا يمكن مواراته خلف أقنعة متعددة الأسماء منها القناع العروبي.
تعرف طهران، كما يعرف حزب الله، أن الفكرة العروبية كما صاغها العروبيون الأوائل لم تأت ردا على استعمار غربي، بل قامت أساسا ضد العثمانية في سعيها للهيمنة على شعوب أخرى تحت سقف السلطنة، بما فيها العرب. لا بل إن الفكرة العروبية أتت متأثرة بالأفكار القومية التي راجت داخل الفضاءات الغربية، لا سيما تلك في فرنسا وألمانيا، بما يجعل من العروبة امتدادا للقومية التي بشّر بها فختة الألماني أو رينان الفرنسي. بهذا المعنى تقدّمت العروبة بمفهومها القومي متكاملة مع جهد فكري غربي، لا شرقي في هذا المضمار، وأن العروبة التي قامت ندا للتتريك في أوائل القرن العشرين لا بد أنها نقيض للفرس بالمعنى القومي الذي لم يغب عن خيارات طهران في الداخل كما في امتداداتها في الخارج.
ولا شك أن سليمان فرنجية الذي يرفع لواء العروبة، سواء كان ذلك قناعة منه أو تكتيكا للاستهلاك المحلي، لا يمثّل خيارا مريحا لطهران وحارة حريك. ثم أن تغني الرجل بعلاقات أبيه وجدّه بالعائلة الحاكمة السعودية لا ينفخ بطمأنينة داخل العقل الحاكم في إيران، حتى لو اعتبرت مزاعم فرنجية من لوازم الشغل الرئاسي. وإذا ما كان رأس الأولويات عند الحزب إيرانيا، على ما أفصح عنه مشهد الخريطة الفلسطينية التي أعيد تعريفها إيرانيا، فلا عجب من أن يبقى خياره ملتصقا بترشيح ميشال عون لشغر المنصب في قصر بعبدا (كما أُعيد التذكير بذلك منذ أيام من على منبر البطريركية المارونية في بكركي)، ذلك أن الجنرال المدافع عن حقوق المسيحيين بريء من أيّ شبهة عروبية كامنة، ولطالما عبّر عن حقد على محيط لبنان العربي (استثنى منه نظام دمشق)، ولطالما أظهر مرونة ماكيافيلية عالية في اعتناق النقيض (حتى لو كان مصدره إسلاميا تحيكه طهران) من أجل العودة إلى قصر الرئاسة.
من أجل مزاج طهران تقوم “المقاومة الإسلامية” دون غيرها في جنوب لبنان مطيحة بتاريخ لبناني وطني عروبي عابر للطوائف وعابر للحدود، يحوّل الحزب الأحزاب والتيارات القومية واليسارية إلى هياكل وظلال رديفة لـ”المقاومة” تماما كما حشر نظام الأسد، أبا وابنا، أحزاب سوريا داخل ما أطلق عليه بـ”الجبهة القومية”. ومن أجل مزاج طهران تتبدل وظيفة الحزب برشاقة فيروح يتبختر من مقاومة على تخوم فلسطين إلى أيّ تخوم أخرى يحتاجها حكم الوليّ الفقيه في بيروت والزبداني وحلب وحتى في العراق، فيما آلته الإعلامية تقصف في البحرين واليمن وتعادي القاهرة تارة والرياض طورا. ومن أجل مزاج طهران ينحو الحزب منحى دمشق حين عادت كل العرب دفاعا عن كونها “قلب العروبة النابض”. لكن الحزب لا يحتاج لعقائدية دمشق العروبية في تبرير ذلك، فغايته المعلنة دون لبس، منذ الإجهار بالولاء للوليّ في طهران، رفع راية إيران أينما توفّر ذلك عند العرب، حتى فوق “قضيتهم الأولى”.