لم تكمل فاصلة فيينا التفاوضية الخاصة بالنكبة السورية دورتها التامة بعد، ومع ذلك داخ الإيرانيون ويدوّخون كل من يتابعهم في شأنها.
من اعتبار حضورهم «انتصاراً» فرضته وقائع الأرض والميدان، الى إعلان تهديدهم الصريح بالانسحاب منها.. ومن إطلاق قراءات تبتهج بالبيان الذي صدر عن اجتماع فيينا، وخصوصاً لجهة تغييبه قصة «الحكومة الانتقالية»، الى اتهام السعودية بلعب دور «غير بنّاء» في شأن مساعي التسوية المفترضة!
.. ومن الانخراط التام في محاولات الوصول الى أي «حسم» عسكري للقضاء على «الارهابيين التكفيريين»، الى اعتبار «الانتخابات» مفتاحاً لإنهاء هذه النكبة!
وذلك في خلاصته لا يدل سوى على خبط عشواء متأتٍّ من حقيقة أن إيران اصطدمت بالحائط في سوريا وترفض الإقرار بذلك. وجرّبت كل شيء تقريباً ولم تصل الى ما تريد. واستعانت على مضض، بالروس من أجل ضبط الانحدار الكارثي للسلطة الأسدية وبقاياها، لكن سرعان ما اكتشفت ان حدود تلك الاستعانة أضيق بكثير من الآمال المعقودة عليها.. وأخطر من ذلك، فإن موسكو جاءت الى سوريا من دون أي قفازات: حكت مباشرة عن مصالحها ووضعتها قبل مصير الأسد. ولم تخبئ أي بنود في أجندتها الإسرائيلية!
ثم الأنكى، أنها لم تخفِ تشاوفها بالإمساك برسن الأسد في يدها وحدها. أي، بعد أربع سنوات ونصف السنة، ومليارات الدولارات وآلاف مؤلّفة من أطنان المساعدات العسكرية وغير العسكرية، وآلاف القتلى، من مستشاريها وعناصر اتباعها اللبنانيين والعراقيين والأفغان الذين رمتهم في حربها السورية.. بعد ذلك كله تجد إيران أن الروسي يأتي ليقول الأمر لي! ويفاوض الأميركيين باعتباره صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في المحور الأسدي.
وما يزيد من صلافة هذا المشهد المأسوي بالنسبة الى إيران، هو أن «حجم» التدخل الروسي لا يتناسب على الإطلاق مع الادعاءات المواكبة له، ومع التوظيفات التي بدأت موسكو في استثمارها بالطول والعرض، مع الأميركي من جهة والإسرائيلي من جهة ثانية.. عدا عن أن النتائج الميدانية، تُظهر يوماً تلو آخر، ومعركة تلوَ معركة، أن الأمور سائرة في اتجاهات المعارضة السورية المسلّحة وليس العكس. وان المعارك التي جرت في ريف حلب في الأسابيع الاربعة الماضية، أفضت الى خسائر بشرية إيرانية تكاد أن توازي مجموع تلك الخسائر على مدى سنتين من المواجهات، وخصوصاً في منطقتي حلب وريف دمشق.
والصورة أمام الإيرانيين، لا يكتمل إطارها الأسود والمفحم سوى باستمرار الموقف السعودي على ما هو عليه لجهة رفض أي دور مستقبلي للأسد وبطانته.. ومثله موقف قطر وموقف تركيا. وعدم قدرة الأميركيين على تسويق (أو فرض!) أي تغيير في هذا المعطى على الرغم من استمرارهم في الإمساك بالمآلات العامة لمسار هذه النكبة من أساسها.
والواقع ان سياسة إيران في سوريا صارت تشبه لعبة المقامر المنحوس: كلما خسر زادت وتيرة تدخله، بحيث يراكم في النتيجة خسائره أكثر فأكثر.. فهي جرّبت وتجرّب كل شيء لحماية «استثماراتها» في سوريا التي بدأت قبل أكثر من ثلاثة عقود، لكنها تصطدم في المحصّلة، بحقيقة لا تُجادَل تفيد بأن تلك «الاستثمارات» وضعت في قربة مفخوتة. ولن ينفع أي شيء بعد اليوم، في سد الفجوات التي يتسرب منها كل ذلك الاستنزاف الدموي والمادي والقيمي.. لا الاستعانة بالروسي، ولا العودة الى النفخ في المعطيات التعبوية المذهبية، ولا الادعاءات الانتصارية الخاصة بمسار فيينا، ولا التحامل الفظّ على السعودية ومهاجمتها من دون هوادة، ولا اكتشاف قصة «الانتخابات» المضحكة والمبكية تلك!