يعود تاريخ تأسيس الشرطة في البحرين إلى منتصف القرن التاسع عشر حينما كانت البلاد تحت الحماية البريطانية. ففي عام 1860 تولدت قناعة لدى المغفور له الحاكم آنذاك الشيخ عيسى بن علي (حكم من 1869 إلى 1922) بضرورة إنشاء حرس يتولون حمايته ويوفرون الأمن والاستقرار في ربوع البحرين، فكــان أن أمر عظمته بتشكيـــل مجموعـــات عـُــرفت بـ «الفداوية» للتمركز في المنامة والمحرق وبقية أنحاء البلاد، على رأس كل منها شخص بمسمى «أمير الفداوية». وحينما شرعت البحرين الأخذ بالتنظيمات الإدارية الحديثة في أواخر العقد الثاني من القرن العشرين وتأسست بلدية المنامة في عام 1919 وقامت الأخيرة بتشكيل فصيل مسلح بالبنادق لتطبيق النظام والقانون وحراسة الأسواق التجارية والمنشآت الحكومية ليلا، أطلق عليه «النواطير». وهكذا مثــّل «الفداوية» و«النواطير» النواة الأولى لشرطة البحرين النظامية التي صدر قانون في العشرين من يوليو 1920 بإنشائها على أن تتبع المجلس البلدي.
وقت ذاك كان عدد قوات شرطة البحرين لا يتجاوز المائتي فرد، وكان الجل الأعظم منهم من ذوي الجذور الأفريقية أو من أبناء عدن واليمن وعمان وبلوشستان (لاحقا تم إضافة البنجابيين إليهم من بعد استقدامهم من الهند). أما سبب عدم إقبال البحرينيين على الانخراط في سلك الشرطة وقت ذاك فمرده غياب الثقافة الأمنية وانعدام اللياقة البدنية لديهم من جهة، وانشغال السواد الأعظم منهم في مهنة الغوص وصيد اللؤلؤ من جهة أخرى، ناهيك عن عامل آخر هو انتشار المخاوف في أوساطهم من احتمال إرسالهم للمشاركة في معارك الحرب العالمية. غير أن الأمر بدأ يتغير تدريجيا بسبب كساد تجارة اللؤلؤ، خصوصا وأن ذلك تزامن مع قيام الحكومة بإغراء المواطنين بالانضمام إلى شرطتها عبر نشر إعلانات تفيد بحصول كل شرطي على راتب شهري ثابت يصل إلى 27 روبية، إضافة إلى حصوله مجانا على بعض المواد التموينية كالأرز والطحين والسمن والسكر، علما بأن هذا التوجه الحكومي كان من نتائج فشل تجربة الاعتماد على البنجابيين في حفظ الأمن العام بسبب عدم تأقلمهم مع البيئة البحرينية وافتقارهم إلى لغة التفاهم مع المواطنين.
كانت أزياء الشرطة في تلك الأيام مختلفة تماما عن الأزياء المتعارف عليها اليوم. حيث كان الشرطي يرتدي قميصا وسروالا قصيرا من اللون الكاكي، ويلف ساقيه بشريط، ويضع على رأسه عمامة حمراء بطول 12 ياردة تتوسطها عند الجبهة شعار الشرطة النحاسي. وفي فترة لاحقة تم تغيير غطاء الرأس إلى العقال والغترة مع تثبيت الشعار في وسط العقال، كما تم تحويل السروال القصير إلى طويل مع ارتداء قميص أبيض فوقه.
أما لجهة الشخصيات التي تولت قيادة شرطة البحرين، فقد تناوب على المنصب الكابتن البريطاني «كامبل»، الذي خلفه مواطنه الكابتن «جيك» المعار من جيش الهند البريطانية. كما تولى القيادة الميجور «كلايف كيرباتريك ديلي» الذي شغل منصب المعتمد البريطاني في البحرين من عام 1921 وحتى عام 1929 ، والكابتن «إل. إس. بارك» الذي عمل مستشارا للميجور ديلي ثم تولى قيادة الشرطة من نوفمبر 1929 وحتى ابريل 1932 ، وقد أطلق اسمه في تلك الفترة على شارع قريب من مبنى وزارة الداخلية (القلعة) بالمنامة هو الشارع المعروف حاليا بشارع قاسم المهزع. وكان يحل محل الكابتن بارك أثناء سفره لقضاء إجازاته مستشار حكومة البحرين البريطاني «سير تشارلز بلغريف»، علما بأنه بعدما ترك بارك منصبه وغادر البلاد نهائيا في عام 1932 أضاف بلغريف هذا المنصب إلى مناصبه العديدة الأخرى. وفي عام 1939 تولى قيادة شرطة البحرين المرحوم الشيخ خليفة بن محمد آل خليفة الذي قام ــ بمساعدة من المستشار بلغريف ذي المواهب المتعددة ــ بنقلة تنظيمية وتحديثية نوعية كان من ثمارها تأسيس فرقة الخيالة للحفاظ على الأمن على طول سواحل البلاد الشمالية والغربية، إضافة إلى تقديم العروض العسكرية، وإنشاء فرقة موسيقى الشرطة التي أمتعت الجمهور بأعذب الألحان في الأعياد والمناسبات الوطنية والرياضية. وقد تعززت وتطورت تلك الإصلاحات في حقبة تولي المغفور له الشيخ محمد بن سلمان آل خليفة رئاسة الشرطة والأمن العام من عام 1961 إلى 1965، حيث استثمر سموه ما تلقاه من علوم شرطية وأمنية حديثة في المملكة المتحدة في إحداث تقسيمات إدارية جديدة ووضع التشريعات اللازمة لمكافحة الجريمة والارتقاء بالأنظمة المرورية.
تلك كانت مقدمة لا بد منها للحديث عن رجل وهب حياته، ونذر نفسه للحفاظ على الأمن والقانون في البحرين في بواكير انطلاقتها المباركة نحو التحديث والعصرنة، وهو من جهة أخرى شخصية عصامية بدأت عملها في شرطة البحرين من الصفر واختتمته بحصوله على رتبة عميد قبل إحالته على التقاعد في الأول من ديسمبر 1977، وهو من جهة ثالثة مواطن عاصر مختلف التقلبات والتحولات لكنه ظل على الدوام وفيا لوطنه وقيادته، عزيز النفس، متصالحا مع الآخر، ومتعاونا مع مختلف أطياف شعبه.
حديثنا هنا هو عن المرحوم العميد علي ميرزا حسين المولود في فريج المخارقة بالمنامة في عام 1905 للميلاد، لعائلة متوسطة الحال من عجم البحرين عــُرف عنها الجد والنشاط والصبر على المكاره وتحمل أعباء الحياة بجلد، علما بأن العجم مكون أساسي من مكونات المجتمع البحريني متعدد الأطياف، انتقلت أسرهم إلى البحرين في أزمنة متفاوتة من مدن وبلدات واقعة على الساحل الفارسي للخليج العربي مثل بوشهر ولار ودشت وجهرم وبيرم، وسكنت في مناطق مختلفة مثل فريج البنعلي بالمحرق، وفرجان سنككي ومشبر والمخارقة وأحياء القضيبية والعدلية بالمنامة، واشتغلت في تجارة اللؤلؤ والسجاد والذهب والألبسة والمواد الغذائية والماشية، إضافة إلى امتهان بعض أفرادها للمهن والحرف اليدوية كالبناء والنقش والنجارة والطباخة.
وكغيره من أبناء البحرين في بدايات القرن العشرين ألحقته أسرته الحريصة على تعليم أبنائها بأحد الكتاتيب في المنامة. وهو من جانبه لم يخذل أهله فاجتهد وحفظ القرآن وتعلم القراءة والكتابة والحساب، بل راح أيضا يتعلم اللغة الانجليزية في إحدى المدارس المسائية، ويمارسها عمليا مع المتحدثين بها حتى أتقنها.
حينما بلغ العشرين من العمر انضم إلى جهاز النواطير التابع لبلدية المنامة، وذلك في 28 مارس 1925 ، وكان عدد رفاقه في الجهاز لا يتجاوز مائتي فرد وقتذاك، بينهم عدد قليل من البحرينيين المتعلمين كان هو أبرزهم، إضافة إلى سلمان عبدالكريم الذي تولى مسئولية الشرطة في إحدى المراحل، ومحمد علي الرقراق، وعلوان أفندي وهو من ذوي الأصول العراقية وتولى قيادة الشرطة البحرينية وتم اغتياله مع رفيقه حمد بن راشد على يد شرطي من البلوش في «القلعة» في 21 نوفمبر 1959.
في بداية الأمر مــُنح ميرزا رتبة شرطي عادي، لكن انضباطه، ومواظبته على واجباته، واحترامه لرؤسائه، وتحمله المشاق في سبيل تأدية وظيفته على أكمل وجه كان سببا في حصوله على ترقيات سريعة. ولعل ما يؤكد حرص الرجل على القيام بواجباته الشرطية دون كلل أو ملل هو ما ذكرته صحيفة العهد البحرينية (19/12/2007) عنه في تحقيق مطول من أنه كان يقطع يوميا المسافة الطويلة الفاصلة بين مكان سكناه في فريج المخارقة ومكان عمله في قرية البديع سيرا على الأقدام لعدم وجود عربات كافية لنقل منسوبي الشرطة إلى مقار عملهم وقتذاك، إلى أن تمكن بشق الأنفس من ادخار بعض المال الفائض عما كان ينفقه على والديه من أجل شراء دراجة عادية توفر له شيئا من رفاهية التنقل «المريح» ما بين المخارقة والبديّع.
بعد مضي ثلاثة أشهر على التحاقه بالخدمة الشرطية، أي في يوليو من سنة 1925، تمت ترقيته إلى رتبة عريف، وهي الرتبة التي بقي بها تسع سنوات بالتمام والكمال، الأمر الذي أهله لنيل الترقية مجددا إلى رتبة ملازم ثاني في عام 1934 . وفي عام 1940 رقي إلى رتبة نقيب فرتبة رائد بعد عامين من ذلك. وبعد 12 سنة أخرى في الخدمة، حصل خلالها على دورات شرطية وأمنية داخلية وخارجية، ولاسيما في الهند وباكستان، أعطيت له رتبتا مقدم ثم عقيد، وصولا إلى الأول من ديسمبر عام 1977 الذي اختتم فيه مسيرته الناجحة في خدمة وطنه بحصوله على رتبة العميد مع إحالته على التقاعد.
في 28 مايو 1978 قلد الأمير الراحل المغفور له الشيخ عيسى بن سلمان العميد ميرزا وسام الخدمة العسكرية من الدرجة الأولى تقديرا له على مجمل خدماته لوطنه. وبهذه المناسبة أدلى وزير الداخلية آنذاك سعادة الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة بحديث لإذاعة البحرين أشاد فيه بمناقب الرجل وتفانيه في أداء الواجب على مدى 49 سنة «قضاها في خدمة الأمن العام وكان خلالها مثالا صادقا للأمانة والإخلاص». وفي شهر مايو من عام 1985 انتقل ميرزا إلى جوار ربه بعد حياة زاخرة بالنبل والوفاء ومكارم الأخلاق، تاركا خلفه ذكرى عطرة لدى كل من عرفه وتعامل معه.
يقول أحد الذين عرفوا الرجل عن كثب، في معرض حديثه عن خصاله، انه لم يهمل واجبه قط، سواء تعلق الأمر بواجبات وظيفته الشرطية أو واجباته الاجتماعية والدينية والوطنية والانسانية، مضيفا أنه كان يكره تلقي الهدايا ويحذر أفراد أسرته من قبولها خوفا من أن يكون وراءها هدف غير نبيل، هذا ناهيك عن أنه لم يثبت قط قيامه باستغلاله لوظيفته الشرطية أو نفوذه خلال السنوات الطويلة التي قضاها مرافقا عسكريا في الداخل والخارج لعظمة الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة ومن بعده مرافقا عسكريا للأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان طيب الله ثراهما في تحقيق مكاسب أو مآرب شخصية لنفسه أو أحد أقاربه أو صديق من أصدقائه.
ويقول آخر إن المرحوم العميد ميرزا كان محافظا على سرية عمله فلا يبوح في جلساته الخاصة بأسماء المتورطين في قضايا مخلة بالنظام والقانون والشرف. ويقول ثالث ان ميرزا كان كثير الاهتمام أثناء عمله وخارج دوامه الرسمي بمظهره وقيافته، وبحسن الخلق وحسن التصرف، وذلك قناعة منه بأن «رجل الأمن يمثل بلده وقيادته، وبالتالي عليه أنْ يظهر بالمظهر اللائق الذي يشرّف القيادة والوطن».
من الجوانب الأخرى في سيرته المضيئة أنه كان يسعى دائما إلى الصلح بين المواطنين في خصوماتهم ونزاعاتهم، ويشجعهم على الحلول الودية والامتناع عن رفع الخلافات إلى القضاء إلا في حالات الضرورة القصوى، حيث كان الرجل، بصفته الأمنية، يمثل الادعاء العام أمام القضاء في الجرائم الخطيرة كالقتل والاعتداء على الاعراض والعبث بالأمن.
يتذكر الرعيل الأول دوره الايجابي الكبير في تنظيم المواكب الحسينية. إذ كان يجتمع وينسق سنويا مع هيئة المواكب الحسينية المكونة من أصحاب المآتم الكبيرة ويرسم معهم خط سيرها كضمان لممارسة الشعائر الحسينية في جو من الأمن والأمان مع المحافظة على القانون والنظام وتفادي الفوضى والغلو. وطبقا لما ورد في تحقيق صحيفة العهد المشار إليه آنفا كمصدر رئيسي لهذه المادة، فإن المرحوم العميد ميرزا كان يتواجد بنفسه في مواسم عاشوراء السنوية في منطقة الباخشة (شارع رقم 330 حاليا)، وهي المنطقة التي تستقبل ذروة احتفالات المواكب الحسينية. بل يـُقال أنه كان يـُوقف سيارته هناك ويترجل منها ويقطع الشارع جيئة وذهابا على قدميه بهدف بث هيبة القانون، دون أن يبالي بما قد يتعرض له من قبل بعض الحمقى والموتورين والمتشنجين.
أسريا اقترن العميد ميرزا بإحدى الفتيات البحرينيات وكوّن معها أسرة سعيدة أثمرت عن ستة أبناء (خليل، عبدالحسين، فيصل، عادل، يوسف، والمرحوم محمد علي)، وخمس بنات (رباب، ليلى، عصمت، سوسن، ونجاة)، حرص على تعليمهم تعليما جيدا، وزرع الثقة والطموح والخصال الحميدة والسجايا الرفيعة في نفوسهم، وتعويدهم على حب البحرين وقيادتها الخليفية، الأمر الذي كان له أكبر الأثر في نجاحهم ونجاحهن في الحياة العملية في القطاعين العام والخاص.
لقد برز كل أبناء العميد ميرزا في المجالات التي تخصصوا فيها مثل الإدارة والمصارف والشركات المالية والتربية والتعليم، لكن أبرزهم وأكثرهم شهرة على الإطلاق هو سعادة وزير الطاقة الحالي الدكتور عبدالحسين علي ميرزا الذي ورث عن أبيه الكثير من الصفات والمناقب مما يؤكد المثل العربي «من شابه أباه فما ظلم»، ومرادفه الإنجليزي «الولد شبيه والده».
التحق الوزير الدكتور عبدالحسين بشركة نفط البحرين (بابكو)، وهو في ريعان الشباب قبل نصف قرن تقريبا، وتدرب في أقسامها وإداراتها. ولأنه أثبت الكفاءة والجدية والتفوق في كل المهام التي أسندت إليه اختارته بابكو في منتصف الستينات ليكون ضمن من ابتعثتهم على نفقتها إلى بريطانيا لإتمام تعليمهم العالي. وهكذا حصل عبدالحسين على درجة الدكتوراه من جامعة ميدلسكس في لندن في تخصص الإدارة الحديثة وإدارة التغيير، ليعود إلى حضن بابكو مجددا ويتنقل في وظائفها الإدارية العليا ضمن أوائل البحرينيين الذين تقلدوا تلك المهام. فمن مدير عام الشئون الإدارية إلى مدير عام الخدمات فمدير عام المالية والشئون القانونية في عام 1980 وصولا إلى منصب نائب المدير التنفيذي الأعلى للشركة في عام 1998، وهو المنصب الذي لم يشغله بحريني قبله. وعلى مدى عقدين ونصف تقريبا ظل الدكتور عبدالحسين عضوا في الهيئة التنفيذية لشركة بابكو، ومساهما بصفة أساسية في وضع استراتيجيات الشركة والإشراف على تنفيذها.
أما علاقته بالعمل في مؤسسات الدولة العامة فقد بدأت بتعيينه عضوا في مجلس الشورى، ثم تم تعيينه رئيسا لمجلس المناقصات والمشتريات الحكومية قبل أن يدخل الحكومة لأول مرة في عام 2002 كوزير للدولة فوزير للدولة لشئون مجلس الوزراء خلفا للأستاذ محمد إبراهيم المطوع الذي عين مستشارا لسمو رئيس الوزراء للشئون الثقافية، فكان بذلك أول وزير من عجم البحرين يتم توزيره. وفي عام 2005 عاد ليحمل حقيبة وزارة الدولة لكن مع رئاسة الهيئة الوطنية للنفط والغاز. وفي نهاية العام التالي (2006) عين وزيرا لشئون النفط والغاز. ومنذ التشكيل الوزاري لعام 2011 وحتى الآن ظل الرجل محتفظا بحقيبة الطاقة التي يدخل في اختصاصاتها شئون النفط والغاز والماء والكهرباء.
إلى ما سبق ذكره، تشهد السيرة الذاتية للوزير عبدالحسين بأنه أحد أكثر الشخصيات البحرينية العامة حضورا في الانشطة الاجتماعية والاعمال التطوعية. ودليلنا هو عضويته في مجالس إدارات العديد من الجمعيات التطوعية والاجتماعية والمهنية. فهو مثلا الرئيس الفخري ورئيس مجلس إدارة سابق وعضو مؤسس في جمعية الإداريين البحرينية، وعضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة سابق في جمعية المحاسبين البحرينية، وعضو سابق في المجلس الأعلى للتدريب المهني، وعضو سابق في مجلس أمناء مدرسة ابن خلدون الوطنية، ورئيس مجلس إدارة سابق لمستشفى الإرسالية الأمريكية بالمنامة