فـــــــي الـــــدعــــــــوات الفايسبـــوكـيــة التي انطلقت اخيراً في لبنان للانشقاق عن الطوائف تعبيرٌ عن غضبٍ من الثقل الذي باتت الطوائف تحتلُه في تسيير أمور البشر كما قيادة الفضاء العام. ولئن شاعت هذه الدعوات في هذا البلد فإن ذلك منطقيٌ في مساحة تركّز داخلها عديدُ الطوائف وعدّتها، حتى باتت اللبننة مرادفاً دقيقاً لنُظم التطييف السياسي على ما اعتمد في العراق مثلاً، وعلى ما هو مستشرف للحالة السورية مثلاً آخر، وعلى ما دخل في صلب مناهج تدريس النُظم السياسية في جامعات العالم.
على أن الطائفيةَ في لبنان ليست علّة طارئة موقّتة متناسلة من تخلّف عرضي، بل هي قماشة الكيان الذي تقاطع المحلي مع الدولي في نسجه وتبرير وجوده، وأي نفيّ لما هو بنيوي في تركيبة الخلطة اللبنانية يقودُ عملياً إلى مباشرة ورشة لتفكيكه، بحيث قد لا تجدُ الطوائف نجاعة من عيشها المشترك، على علله، ويصبحُ البحث عن الملاذات مشروعاً في ما يتجاوز ما رُسم في لحظة وبات متقادماً في لحظة أخرى.
لم تكن المشاريع العلمانية في تاريخ لبنان إلا وصفات مرتجلة لعلاج ما هو متجذّر في عقل النظام السياسي بمحركاته ودينامياته، كما في عقل العامة وما توارثته من ساكن. ترجّلت تلك الطروحات متأثّرة بتقليعات إيديولوجية اجتاحت العالم، في الطبعات الفاشية اليمينية أو الليبرالية الوسطية أو التوتاليتارية البروليتارية. بمعنى آخر، جرى استيراد أحدث ما يُنتج في هذا الصدد، وفق رؤية تبسيطية ترى في ما يروج في العالم قابلاً للاستهلاك في السوق المحلية.
تكمنُ عرضية السلع العلمانية في أن مستورديها استسهلوا تقديمها معلّبة كما خرجت من المنشأ، وأفاضوا في فرضها، بفوقية واستعلاء، من دون أي اعتراف بعوامل وظروف وتراكم تاريخي عريق يحملُ محدداته ودينامياتيه الخاصة. بدا تشكيلُ الأحزاب لتسويق العلمانية مشابهاً لإنشاء الشركات، من حيث أنها تشكلات موقّتة تطلقُ ورشاً هدفها الربح، وتلفظُ أنفاسها بانتفاء الربح. وعرضية تلك السلع تكمنُ، أيضاً، في أنها غزت السوق مهرّبة، فلم تخضع لمعايير مجتمعية، وجرى تداولها في سوق موازية لم تعترف به البورصات الثقافية البيتية.
تقتاتُ الطوائف من أرضية دينية صلبة تغرفُ من ميتافيزيقية لا تنضب، كما تروّج وفق منظومة مصالح معقّدة عصيّة على التحليل وفق تصنيفات مادية، أو ماركنتيلية. توفّرُ الطوائف للفرد مادةً ناجعة لتبريد قلقه وتعريف انتماءاته، كما تأمين ملاذاته الآمنة. تجيبُ الطوائف عن الأسئلة البديهية البسيطة بردودٍ عملية فورية تحاكي المعهود ذا الحسّ المشترك في راهن الزمان وماضيه.
لم تكن العلمانية يوماً مطلباً ملحّاً لدى الأغلبيات في لبنان، وهي كذلك لدى الأقليات. لم تكن العلمانية، مع ذلك، مشروعاً رسمياً للطوائف الصغيرة، لكن لبّ الجدل خرجَ من هوامش تلك الطوائف وليس من متنها. كان على الأقليات أن تبحثَ عن مخارح تقيها عثمانية، وعن أخرى تقيها عروبة. بدا للخائفين من سطوة الأغلبيات أن تئِدها وفق منظومة مصطنعة فيها من الركاكة ما يفضحُ مراميها.
تقدمت العلمانية الفرنسية من لدن كاثوليكية وتمرداً عليها. تناسلت العلمنة الإنكلوساكسونية من بروتيستانتية، ما هي إلا إنشقاق على الكنيسة وتمردٌ على الساكن فيها. بمعنى آخر دخلت العلمانية، بما فيها من إغفال للطوائف ومنظومتها، من الأبواب العريضة ومن صلب الثقافة لا التفافاً عليها وتسرباً من النوافذ الخلفية لها. وطالما أن الحداثة في بلادنا ليست إنتاجاً محلياً ولا يخرجُ من مطابخه المحلية، فستبقى الأطباق سريعة الطهو سريعة التلف غير صالحة لاستهلاك صحيّ مضمون.
قد يُفهم من هذه السطور دفاع عن الطائفية واستسلام لها. لكن التمرين هنا يتحرى الإقرار بواقع وجب الاعتراف به وقبوله كأساس لأي إصلاح حديث. هل يجب التذكير بأن الطائفية في لبنان هي وحدها التي حمت السمات الديموقراطية التي ميّزت الكيان اللبناني وجعلته استثناء يُحسد اللبنانيون عليه، يوم كان البلدُ يستدرجُ حسداً. هل يجب التذكير بأن اتفاق الطائف، المفترض أنه طبعة إصلاحية للنظام الطائفي ومعبره نحو ما هو لا طائفي، قد تمّ تعطيله من قبل نظام الوصاية السوري «العلماني» الذي كان يعيبُ على اللبنانيين طائفيتهم. هل يجب التذكير أن الطائفية هي نظام مراقبة متبادل يُفترض أنه يقي الطوائف شططها وانحرافاتها.
مورست العلمانية في أشد صورها في تونس وتركيا. جرى تهميش الفعل الديني في السياسة في تونس، وجرى اختصار طوائف تركيا وفق أتاتوركية هيمنت داخلها الغلبة السنية، وفق منظور علماني لا ديني، على بقية المشارب الطائفية الأخرى. بدا أن التجربتين تشكّلان مفصلاً تاريخياً صارخاً ضد الخطابين الديني والطائفي، فكان أن انتهت تركيا إلى الاستسلام للإسلام السياسي حاكماً، فيما خرجت من تونس أكبر الجاليات الجهادية المقاتلة في سوريا والعراق.
الجدل حول هذا الأمر تناوله ياسين الحاج صالح في أحد مقالاته مؤخراً في جريدة الحياة، تعقيباً على دعوة حازم صاغية للخروج من الطوائف. تحدث الحاج صالح عن «تكاذب عام شارك فيه معظم المثقفين». ربما يجب التذكير أن أوساطاً ماركسية لبنانية نظّرت لمفهوم «الطبقة – الطائفة» تماشياً مع رياح الشيعية السياسية حين راجت بالطبعة الخمينية القادمة من طهران. أنتجت العلمانية البعثية السورية عصبية علوية تتحكمُ بغالبية ولا تجد غضاضة في إبادتها، فيما العلمانية البعثية العراقية شرّعت أبواب سطوة سنيّة حوّلت الطائفة راهناً، وفي جانب عريض منها، إلى داعم لداعش. وربما المثال الصارخ هذه الأيام هي تلك العلمانية السوفياتية التي أنتجت فلاحتها على مدى سبعين عاماً أرثوذكسية تبارك حرب بوتين «المقدسة» في سوريا.
لن تمرَ الدولة المدنية إلا من خلال نضج تصلُه الطوائف نفسها وليس تسللاً من وراء صيرورتها. ولن ينجحَ العلمانيون المخلصون إلا في السعيّ من خلال الطوائف نفسها، ناهيك بأن تلك الطوائف أظهرت عبقرية في استيعاب المتمردين داخلها والطامحين إلى الخروج منها، بحيث أن مظلتها تتمددُ فتعقلن الطامحين وتهذّب شططهم. يكفي تأمل التصاق العلمانيين أنفسهم بصَلَف الطوائف نفسها، فواحدهم منهم يعلن اخيراً أنه لا يرى تحقيق علمانيته إلا بالتحالف مع حزب الله، ثم يضيف، وهذا ليس تزلّفاً.