هكذا تتداعى أمامي سنوات مجاورة نظام الملالي في إيران منذ عام 1978 وأحداث الأشهر المتسارعة، والإطاحة بنظام الشاه بعد سنة من ذلك التاريخ، ومن حقيبة الذاكرة وفي العام 1968 وكنت طالبا في الثانوية، وصلتنا أخبار عن حدوث انقلاب على الشاه، سرعان ما تجمع الطلبة وتصاعدت الهتافات فرحا بالخبر الذي تبين بعد ساعة أنه عار عن الصحة، وتملكنا الغضب والحسرة.
أستعيد تلك اللحظة، لأؤكد رغبة العراقيين في نظام حكم في إيران يحترم جيرانه ولا يتدخل في شؤونهم الداخلية ولا يتعالى عليهم، بعد سنوات حدث التغيير من شخصيات كانت في ضيافة العراق وبرعاية حكوماته وحمايتها، كانوا يعيشون بكرامة وسكن لائق وحق التواصل والعمل وحرية أداء الطقوس الاجتماعية والدينية.
سجلات المخابرات وأجهزة الأمن العراقية تؤكد عدد التضحيات من رجالها المرافقين للشخصيات الإيرانية، نتيجة استهدافها من قبل أجهزة “السافاك”، وحادثة مقتل المعارض (بختيار) قرب المدائن معروفة، ذهب ضحيتها أحد الضباط العراقيين من الذين أعرفهم.
تفاصيل بداية الثورة ومغادرة الخميني العراق واستقراره في باريس، وما حدث بعدها من سُعار تجاه العراق، وفر الأسباب لاندلاع الحرب الدامية بين إيران والعراق وسميت بالحرب المنسية، وهي من أقسى الحروب بين دولتيْن في القرن العشرين بعد الحرب العالمية الثانية، كانت الأحزاب الإسلامية، الحاكمة الآن في العراق وسيلة لإيقاد فتيلها، وبعد الاحتلال الأميركي للعراق بادرت إحدى التنظيمات التابعة لإيران بطباعة ملصق لصورة منفّذ تفجير المستنصرية الذي قدح الشرارة الأولى للحرب، وهو أحد المنتمين إلى ما يعرف بـ”حزب العمل الإسلامي”، متفاخرة به لأنه كان بطل مشروع تصدير الثورة الإيرانية الإسلامية إلى العراق.
بعد عام 2003 واحتلال العراق وصولا إلى حاضرنا، من حقنا أن نبدل مقولة أن خلف كل مشكلة يتعرض لها العراق والعرب “أبو ناجي” أي بريطانيا العظمى، بإلقاء كل ما أصابنا في العراق وما يحدث من تمزق في صفوف أمتنا إلى مشروع بلاد فارس الذي أصبح يمر إلى القدس عبر بغداد ودمشق والزبداني وبيروت والمنامة واليمن، ويمر عبر شعائر الحج ومكة والمدينة، لكنه، بكل تأكيد، لن يصل إلى القدس لأن جنرالات إيران سيجدون معابر أخرى لحروبهم المذهبية ومخططاتهم الاستعمارية ونهجهم وتعاليم مدرسة ولاية الفقيه.
النظام الإيراني لا يمكن أن يصدّر لنا المصانع والتقنيات الحديثة، وليس من المعقول أن يساهم في تعليم شبابنا العلوم من طب وهندسة أو اتصالات، إنهم يصدرون لنا أسباب انقسامنا وموتنا وضخ الوقود لزيادة مساحات الحريق المذهبي الذي يتمدد على أرض العروبة ويتخطاها.
المخاطر كامنة في رؤية الإشارات دائما، دون الاستعداد لها، كما لو أننا قرب بركان نتابع الدخان المتصاعد يزداد كثافة ونبدأ بشم رائحة الغازات المنبعثة، ثم نرصد بعيوننا النيران، ونُطمئِن أنفسنا منتظرين علامات أخرى، ثم نتفاجأ به، ليصدمنا بعشوائية حماقاته الكبرى.
نظام الملالي في سوريا ولسوريا حدود، نظام الملالي في العراق وللعراق حدود، يصرح علنا بنياته في استعباد العرب، بغداد عاصمته، إلقاء القبض على بثور ودمامل إيرانية في الكويت والبحرين والأردن، ولن تتوقف أقدام فيلة الفرس عن اقتحام أرضنا، لكن أول الغيث إصابة غيلانهم في اليمن، وكانت ضربة على بابهم المفتوح، أصلا، على ضعف إمبراطوريتهم وانقسامها، وتصريحاتهم الأخيرة للبراءة من أحداث اليمن وتنصلهم من أتباعهم، يجب أن توفر قناعات مستدامة لمجابهة ذرائعيتهم (والمعنى واسع) بوسائلهم ذاتها، ونقل ساحة الصراع إلى داخل ولايتهم ليعودوا إلى حجمهم وعزلتهم الفكرية والنفسية.
الولاية الفقهية بسيطرتها على العراق مستفيدة من الاحتلال الأميركي بأكاذيبه المفضوحة عن أسلحة الدمار الشامل، حوّلت الساحة العراقية إلى ساحات عبث وأوجدت معادلها الموضوعي بالإرهاب وفتحت كل خزينها لإمداد العنف بواجهات مختلفة لشركة راعية واحدة.
تساوم على تغيير مناطق سكانية في سوريا وتبادل طائفي وميليشياتها تختطف عمالا أتراكا للضغط على تركيا والمعارضة السورية، تتحرك لرأب الصدع بين حلفائها في بغداد وتفرق شعب العراق، وتجتهد لإعادة الوفاق بين الحزبيْن الكرديين الرئيسيين وهي تضطهد أكراد إيران، وتمنح الدعم لحزب العمال الكردستاني، ليكون إقليم كردستان ممرا ومعبرا إلى مزيد من الفتن داخل تركيا، وإيران اليوم لن تُستَبعَد بعد الآن من الاتهامات والشكوك حول ضلوعها في التفجيرات الأخيرة أو ما يتبعها.
إنها على حدودنا جميعا، وتنسل كالأفعى لتلدغ هنا أو هناك، الإرهاب صنيعتها لأنها دولة باطنية، تفعل شيئا وتصرح بضده، مرشدها يتوعد ويصرخ بالانتقام، خاصة من إسرائيل، ورئيس نظامها في خط آخر، ورئيس مجلس الشورى أو وزير خارجيتها يبتسم بثقة إلى مصير علاقاته الخارجية، أما هؤلاء القابعون في المنطقة الخضراء فما زالوا يتحدثون عن سيادة العراق واستقلال قراره وصداقتهم مع نظام إيران التي يفسرها وزير الخارجية العراقي: من حق إيران أن تدافع عن نفسها على أرض العراق لتبعد شر الإرهاب عن أراضيها.
هل تذكرون محور مثلث الشر بالوصف الأميركي؟ كان المقصود كما يبدو، الإبقاء على محور واحد للشر تتجمع حوله كل شرور العالم في مشروع ولاية الفقيه، الذي أثبت تناغمه مع المشاريع الدولية في تفريغ بلداننا من حراسة العقل.
يردمون لنا عين ماء بحجر، نهشم لهم ولاية الزجاج، بعد دفع الباب المفتوح بقوة.. لنجرب.