في بيتنا البصري، خلال الثمانينيات، كان أبي يعلق صورة المرجع الخوئي. وهو رجل في أواخر الثمانينات من عمره، وجهه تملؤه الشامات. أذكر أن أمي قالت له؛ اخشى أن يعتقد من يزورنا أنها صورة “الامام” الخميني، فرد عليها، كلهم يعرفون الخوئي.
وحين هربنا الى إيران من بطش النظام السابق، لم اكن انا المراهق أعرف الكثير عن صراع المرجعيات، لكني احببت ولاية الفقيه. ابن انتفاضة 1991 لم يكن معنياً بمرجعية “مهادنة”، بحث عن الثوريين، عن ولاية الفقيه باعتبارها مفهوماً ثوريا. لكن قبل مرور العام الاول من وجودي هناك، درست في الحوزة، وعرفت الاختلاف بين المرجعيات. من حسن الحظ، أن اول من أثر في بتلك الفترة رجل عقلاني وكان من تلاميذ الخوئي، شديد الحذر تجاه ذهنية الثوريين، عرّفني بأهمية استاذه قبل أن يتوفى. وبعد تفكير عميق، قارنت، فوجدت نفسي اميل الى من هو في النجف أكثر ممن قاد ايران. فالثورية تراجعت لصالح العقلانية.
في جمهورية ولاية الفقيه كان الخوئي خطاً أحمر، لأنه لا يقر بولاية الفقهاء، يرى أن دورهم يقتصر على الارشاد، مثلا إنه رأى أن صلاة العراقي في الكويت المحتلة باطلة الا اذا دفع المصلي كفارة، ورعى انتفاضة 1991 بحدود السيطرة على سفك الدماء. بينما هناك، لدى الموالين لولاية الفقيه، الامر لم يكن مقبولا؛ أحد ائمة الجمعة المهمية لدى المجلس الاسلامي الاعلى اليوم، كان لا يمر شهر الا اذا ذكر الخوئي في الثمانينيات والتسعينيات، كي يحظى برضا ولاية الفقيه، لكنه حين اكتشف أن القادمين في 91 هواهم نجفي وليس ايرانيا، توقف وكف خوفاً.
مرت الايام، وأنا احترم المرجع الخوئي، بناء على المعايير الفقهية، فاكتشفت أنه الاهم “علمياً” منذ قرون، ودافعت عنه بقوة أمام كل ثوري واجهني. حتى ظهر المرجع الصدر، والذي حاول طلابه النيل من استاذ مرجعهم، فكانت المعارك ضارية وقتها، هم يتهجمون وأنا ادافع. مع الوقت اكتشفت أن الخوئي حقن دماء العراقيين، في قابلة المنهج الثوري الذي انقسم الى نمطين من المراجع الدينيين، نمط ولاية الفقيه الايرانية، ونمط العراقيين الذين اندفعوا بعيدا للتضحية بالعراقيين من أجل اقامة الحكم الاسلامي.
الخوئي تمليذ محمد حسين النائيني، صاحب كتاب المشروطة والمستبدة، وهو أول كتاب في تاريخ الفقه الديني، الشيعي والسني، يدعو ضمنا الى الديمقراطية ويرفض أن يكون هناك حكم مستبد، دينيا كان أم غير ديني. وهو ايضا استاذ المرجع السيستاني، اي استاذ من اصبح الان يدعم التظاهرات ضد هذه الطبقة الفاسدة. والسبب بسيط، ان المرجعية الدينية التقليدية، استعادت اليوم تقليدها الذي لا يمكن أن يقف مع الانظمة ضد الشعب، وفي الوقت ذاته لا ترى بنفسها قائدة ثورة، بل داعمة للحقوق.
فضلا عن هذا، مرجعية السيستاني اثارت حفيظة نظام ايران منذ أواسط التسعينيات، فولاية طهران لم تكن تريد مرجعا منافسا للخامنئي خارج ايران. لذا ظلت النجف تؤرق الايرانيين كثيرا، لكن بالنهاية لم يكن بالامكان وضع حد لها. وبعد التغيير في 2003، التقت مصالح ولاية الفقيه بالسيستاني، على خلفية الصراع الطائفي ومستقبل الشيعة، وبالفعل دعمت المرجعية النجفية الائتلاف الشيعي في الوقت الذي دعمته ايران.
الا أن الفراق بدأ مع الدورة الثانية للمالكي، حوزة النجف لم تره مناسبا، وولاية الفقيه دعمته، وفي النهاية انتصرت الاولى على الثانية. بعد ذلك، حاولت ايران الاستفادة من فتوى الجهاد ضد داعش، والتي اصدرها المرجع السيستاني في 2014، لكن ايران لم تكن معنية بالمتطوعين القادمين بناء على رغبة المرجعية، بل بجماعات معينة معروفة، لذا تبلورت هناك خلافات عميقة داخل الحشد الشعبي بين ايران والنجف. وقبل ذلك بقليل، اخطأت النجف حين اندفع احد اسماؤها لدعم جهة معينة ضد المالكي، لكنها صححت الخطأ في دعم التظاهرات.
وما جرى منذ انطلاق تظاهرات العراق، هو ان مرجعية النجف بدأت تستعيد نشاطها في مواجهة ايران، وفي الوقت نفسه ضد الرموز التي صعدت باسمها. المصادر تقول ان احد الزعامات السياسية الرئيسية سعى لاجراء اي لقاء بالسيستاني لكنه فشل، لأن الاخير رفض بشكل بات اللقاء بأي شخص تدور حوله الشبهات. كل هذا يدل على أن الصراع ليس بين النجف وولاية الفقيه فخسب، انما بين وجودين مستقلين تماما، وجود المرجعية التقليدية والمرجعية الثورية، وهذا قد يمتد لصراع ضد أي جهة دينية داخل الحوزة النجفية تحاول أن تبتلع اربعة قرون من القيادة التقليدية للدين في العراق.
ولاية الفقيه من جهة أخرى تخشى بشكل كبير على مستقبلها، لأن السيستاني يقدم نموذجا مختلفا للداخل الايراني. هذا النموذج لا يتولى الحكم، بل يلعب دورا ابويا انتقاليا لأي وضع سياسي، ومعارضو النمط الراهن للجمهورية الاسلامية يمكن ان يعتمدوا عليه في مطالبتهم بالاصلاح، خصوصا مجموعة مير حسين موسوي وكروبي، او بتعبير أدق، منهج رفسنجاني بالحكم.
وأخيرا، صحيح أن المرجعية الدينية يصعب ان تقتنع عقائديا بحكم مدني، لكن مصلحة استمرارها، ومصلحة أنها وجود روحي، دفعا اصحاب القرار فيها الى اتخاذ خطوات، قد لا تكون ناجعة الان، لكنها تحقق الانفصال عن السياسة في المستقبل، وتساهم في صناعة صيغة تجعل الدولة والمرجعية قوتين لا تتضادان، لأن كلا منهما يدرك صلاحياته ومجاله، وهذا ما تخشاه ولاية الفقيه الايرانية.
– See more at: http://elaph.com/Web/opinion/2015/9/1037916.html#sthash.t5BFPNXk.dpuf