حتى السماء في باريس غير السماوات الأخرى، الغيوم ممشوقة، والقمر كأنه أحد كبار عارضي الأزياء في دور العروض في الشانزيليزيه يرتدي ثوبا أنيقا من “فيلبلين” بربطة عنق من “فرزاجي”.
كل شيء مختلف في هذه المدينة المبتسمة جمالا وأناقة ونورا وعبقا، في مقهى معتق برائحة عبق التاريخ، مقهى كان يرتاده كبار فلاسفة فرنسا، ليس آخرهم سارتر أو جان جنيه أو فوكو أو ديريدا، كنت أتصفح كتاب فولتير “رسالة في التسامح”.
قادتني المصادفة للتعرف على عراقي مثقف، بشبه في منطقة السوسيولوجي علي الوردي، وليس أبعد واقعية عن العالم حسن العلوي، وجمال مفردات الجواهري.
عجوز شرده بؤس الأحزاب، وشظايا انفجارات العراق، لمح الكتاب بيدي، وراح يسألني: من أي بلد أنت؟ غير أن ملامحي الخليجية تفضح الصورة، ونكهة اللكنة وتضاريس الصحراء تشي بمضمرات هويتي الخليجية. الأخ خليجي؟ نعم ومن البحرين، باغتني بهجوم استنكاري لا يخلو من استنطاق بوليسي بلا مقدمات: ما هذا الجنون الذي نراه في البحرين؟ قلت له أي جنون؟ دعوات إسقاط النظام! قلت له: لا عليك مجرد أفراد لا يمثلون الأكثرية. – غريب أمركم، ألا ترون ما حل بالعراق؟ واسترسل، يا سيدي، نحن نشاهد المسلسلات الخليجية، ونرى اثر النعمة في كل شيء تكشفه هذه المسلسلات، من المسكن حيث الديكور إلى جمال المستشفى إلى رصافة الشارع والطرق.
أنتم في نعمة يحسدكم عليها القريب قبل البعيد، لا يوجد مواطن ليس عنده (سيارة)، موادكم الاستهلاكية، كهرباء، محروقات كل شيء مدعوم، شوارعكم نظيفة، مجمعات فارهة. مستشفيات عصرية، حرية، جامعات، أمن وهو الأهم، احمدوا الله النعمة، وطالبوا بأكثر، لكن لا تنخدعوا بشعارات تقودكم إلى ما قاد العراق، انخدعنا بالشعارات البراقة، وكانت النتيجة لا أمن ولا حياة، شباب ممزق جسديا ونفسيا من الانفجارات، والآلاف من الموتى، ننام ونصحوا على قرية كاملة تختفي تحت الأرض بسبب انفجار، فقر، لا بنية تحتية، لا كهرباء، والأحزاب تتصارع مع بعضها وتتقاسم الكعكة وحكومة مرتهنة للخارج، شعب ابتلعته الطائفية، بلا مركزية وكل حزب يريد بناء العراق على طريقته الخاصة.
شعب فقير ينام على احتياط نفط ومئات المليارات، هل تتمنون أن يصبح الخليج هكذا؟ كان يتحدث بصوت مرتفع لفت انتباه الفرنسيين، قال لي، أنا شيعي المذهب وطني الأرض، وأكره التقسيمات المذهبية وكنت منتميا لحزب كفرت به وبكل الأحزاب بعد ذلك، ولكن الوجع لا يتحمل، أنا فقدت جزءا من عائلتي عند اشتباك الأحزاب ضد بعضها، وفقدت وظيفتي، فقررت الهروب من هذه الفوضى، خرجت هاربا عن طريق سوريا في شاحنة ومن بلد إلى غابة إلى وديان، ورأيت الموت أكثر من مرة ومكان إلى أن وصلت إلى فرنسا، والى الآن بلا أوراق، حافظوا على “ديرتكم”، لن ينفعكم احد، نحن العراقيون ضيعنا الأميركان والإيرانيون والأحزاب التي صدقناها بأنها ستقدم لنا جنة الديمقراطية، تقبلوا الموجود وطوروه، لكن لا تخدعكم إغراءات دعوات إزالة الحكم، للأسف نحن لا نتعلم من أخطاء التاريخ، فتوى مرجع دعا لمقاطعة الشيعة للحكومة في عشرينيات القرن بحجة عمالتها للإنجليز ضيعتنا سنين، ماذا لو دعمنا النظام الملكي كبقية الأطياف؟ رحم الله الملك فيصل وغازي أين كانت العراق بحكمهم وأين أصبحت اليوم؟ كلكم تزورون العراق اليوم، خصوصا موسم الأربعين هل من ناقد منصف يعقد مقارنة بين الخليج والعراق على مستوى التطور والمدنية والأمن ودخل الفرد؟ كم هي موازنة البحرين، وكم هي ميزانية العراق؟ خذ صورا للبحرين أو أية دولة خليجية وخذ صورا للعراق أو إيران أو اليمن أو أي بلد ستكتشفون الفارق الكبير، يا سيدي، عراق الانقلابات والقوميين وحزب البعث والحكيم والمالكي ومقتدى يختلف كليا عن عراق الملك فيصل! الشوارع العراقية والمدنية أيام الملك فيصل أفضل ألف مرة من اليوم. ماذا قدم الضباط بانقلاباتهم للعراق؟ يا سيدي، كي أختصر لك الطريق وكي تحذروا الناس من هذه الثورية والفوضى العبثية اذهب إلى اليوتيوب، وابحث عن اليمن والعراق ومصر وليبيا وإيران وأفغانستان وكل دولة كانت تحت نظام ملكي، وتم الانقلاب عليها من قبل ضباط أو أحزاب، وانظر الفارق بين الحكم الملكي وحكم الأحزاب، ستصاب بالصدمة، كانت العراق الأجمل ومصر الأرقى واليمن الأبهى، وليبيا الأروع، بنى تحتية، مستشفيات جميلة. تعليم مزدهر، اقتصاد، حكومات توكونقراط متعلمة في أرقى الجامعات، وقارن بينها وبين الآن في هذه البلدان بعد الانقلابات وانقضاض مخبولين جوعا على السلطة، شعب جائع، مدن بلا كهرباء، فقر قاتل، شوارع محطمة. سوسة الفساد ضاربة في كل الوزارات، مستشفيات كأنها خرائب، مليشيات متوحشة، هذه هي النتيجة الطبيعية لكل مجتمع يغيب عقله ويسمع الشعارات الكاذبة سؤال، ماذا لو بقي حكم العراق ملكيا إلى اليوم أين سنصل؟ أمامك مثال النظام الملكي المغربي والأردني رغم شح الموارد الا أنهما في تطور مستمر وانظر إلى جارهم الليبي المحطم، هؤلاء زعماء الأحزاب، لو وصلوا إلى الحكم سيتقاتلون.
قلت له الإمام علي عليه السلام يقول “اطلبوا الخير من بُطُون شبعت ثم جاعت، فإن الخير باقٍ فيها، ولا تطلبوا الخير من بُطُون جاعت ثم شبعت فإن الشح باقٍ فيها” نعم هذه هي الحقيقة، ثم استطرد سائلا: ماذا قدمت شعارات الشيوعية لشعب البحرين؟ ماذا قدمت شعارات القوميين العرب لكم عندما هاجمت الحكم في تلك الحقبة؟ وماذا قدمت لكم شعارات الإيرانيين منذ 35 عاما غير المحارق؟ وماذا قدم الإخوان لمصر غير بالونات هواء فارغة؟
انظر، أمامك الأردن، وأمامك العراق، ماذا فعل عبدالكريم قاسم بالعراق، وكيف طور الملك حسين الأردن، هذه النتائج بين يديك، أقول لا تكرروا الأخطاء في الخليج، غدا تبكون على النعمة، خصوصا نعمة الأمن والأمان، حافظوا على الإنجازات وطوروها، ورسّخوا الحقوق بالعقل ووضع يدكم بيد قاداتكم، فلن ينفعكم احد واحفظوا بلدكم، لا تسمعوا لا لإيران ولا لداعش ولا الأميركان والغرب.