ما يقوله ترامب في موضوع سوريا هو ما رآه أوباما بكلمات وشكل آخرين، وبالتالي فإن رجل البيت الأبيض الجديد لا يختلف في المضمون السوري عن رجل البيت الأبيض القديم.
من الصعب القبول بوجود عقيدة تتحكّم بمواقف دونالد ترامب على منوال تلك التي حاول الصحافي الأميركي جيفري غولدبيرغ جمعها، من خلال مقابلات مع الرئيس الأميركي الحالي، وإخراجها في مقال في صحيفة أتلانتيك الأميركية تحت عنوان “عقيدة أوباما”.
لكن للمفارقة، فإنه إذا ما راكمنا مواقف الرئيس الأميركي المنتخب منذ حملته الانتخابية، أو تلك التي أدلى بها بعد انتخابه، فإن المراقب قد يلاحظ تكاملاً، وربما امتدادا، يربط فتاوى باراك أوباما برؤية دونالد ترامب لعالم اليوم.
يحاول وزير الخارجية الأميركي الأسبق والشهير هنري كيسينجر أن يعطي تفسيراً لما طرأ من تبدّل في فلسفة السياسة الخارجية لبلاده ووزنها في صناعة النظام العالمي. يلفت الرجل إلى أن الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية كانت تملك 55 بالمئة من الناتج القومي الإجمالي العام في العالم، ما جعل وزارة الخارجية تخصص موارد لكل منطقة. أما في الوقت الراهن، حسب قوله، فإنها لا تملك إلا 22 بالمئة من الناتج العالمي، فلذلك “تحتاج واشنطن إلى تحديد الأولويات بدلا من الاعتراف بأنها لا تستطيع التدخل في مناطق العالم دون التعاون مع دول أخرى”. المسألة أولويات، والأولويات وجهة نظر.
بالمقابل فإن المفكّر الأميركي فرانسيس فوكوياما الذي صدّع رؤوسنا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بنظريته حول “نهاية التاريخ” وبشكواه من الضجر من جراء ذلك، يستفيق مرتبكاً هذه الأيام ليتعرف، من خلال ظاهرة ترامب رئيساً، على حقيقة أننا نلجُ “عصرا جديدا” من القومية الشعبية، يتعرض فيها النظام الليبرالي الذي أخذ في التشكّل منذ خمسينات القـرن الماضي للهجوم من قبل الأغلبيات الديمقراطية الغاضبة، ليحذر، في مقال له في الفايننشال تايمز، من “خطورة الانزلاق نحو عالم من القوميات المتنافسة والغاضبة في الوقت نفسه، وإذا ما حدث ذلك فإننا بصدد لحظة تاريخية حاسمة مثل لحظة سقوط جدار برلين في عام 1988”. المسألة إذن هي عصر جديد.
تتناسل من “صدمة” انتخاب ترامب رئيسا للولايات المتحدة نظريات يومية تحاول إيجاد إطار نظري أو فلسفي لأمر لم يكن متوقعاً أو مستطلعاً، أو لأمر لم تكن النخب البليدة تتخيّله ممكناً. لكن العالم، كما الداخل الأميركي، بدأ يأخذ “الترامبية” على محمل الجد، ويستعد للتموضع وفق الأمر الواقع الجديد في واشنطن.
تقارب روسيا فوز ترامب بصفته واقعاً قد يمثّل قطيعة مع تقليد أميركي قديم وسم العلاقات الأميركية الروسية، فيما تتأمل الصين الأمر ضمن سكينة تخلط ما بين الثقة والتوجّس، وتنتفض أوروبا بقلق من خطاب الاستقالة الذي يتسرّب من مواقف ترامب إزاء الالتزامات التاريخية التي جمعت القارتين القديمة والجديدة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتنشدّ أنظار منابر الاقتصاد إلى المؤشرات خوفاً من انهيار قد يوحي به ما وعد به ترامب من عزم على الانسحاب من اتفاقية التجارة العالمية.
بكلمة أخرى فإن الولايات المتحدة التي عرفناها، شكّلت القاعدة الأساس للنظام السياسي والأمني والاقتصادي العالمي، بحيث أن اختيار نزيل جديد للبيت الأبيض على مدى العقود السبعة الأخيرة كان دائماً حدثاً محلياً يخص كافة دول العالم، شأنه في ذلك شأن الأميركيين أنفسهم.
وقد يجوز استنتاج البون الشاسع الذي يفصل بين مضمون خطاب باراك أوباما الاجتماعي الوحدوي إبان حملاته الانتخابية، وخطاب دونالد ترامب الذي أدى عند انتخابه إلى ظهور تشققات داخلية مقلقة، سارع الرئيس أوباما والحزبان الرئيسيان إلى استيعابها والتخفيف من وقعها من خلال المبالغة في تلميع شعارات “أميركا” و”وحدة الشعب الأميركي”.
لكن تفحصا منصفا قد لا يجد في رؤية ترامب للسياسة الخارجية لبلاده انقلاباً كبيراً في الاستراتيجيات التي اعتمدتها إدارة أوبـاما طـوال الثماني سنـوات الأخيـرة.
وفيما ترتبك أوروبا وتسعى لاستراتيجية عسكرية خاصة بها مستقلة عن المظلة الأميركية، فإنه حريّ التذكير بأن التفكير بهذه المقاربة قد ترعرع في عهد أوباما الذي لم يقدم رواية مطمئنة حول التزام واشنطن بأمن أوروبا، وسط تململ من سياسات أميركية يُشتبه أنها تستخدم أوروبا في ورشة مناكفة واشنطن لموسكو، دون أي ضمانات تحمي دول الاتحاد الأوروبي من مغبة الصدام المحتمل مع الطموحات الروسية.
إلا أن الأمر يبدو أكثر وضوحاً في منطقة الشرق الأوسط. فالسياسة الأميركية ثابتة إزاء دعم إسرائيل، ولو أن شكل العلاقة بين باراك أوباما وبنيامين نتنياهو أوحى بغير ذلك، وأن تحفّظ واشنطن حيال برامج الاستيطان لم يوقفه عتب الرئيس الحالي الذي ارتفعت مستويات التمويل الأميركي السنوي لإسرائيل في عهده. وقد يظهر في مواقف ترامب (ونائبه خصوصا) حماس مفرط لصالح إسرائيل، لكن ذلك بدا منسجماً مع السياسة الأميركية التقليدية المتمسكة بـ”أمن إسرائيل”، كونها “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”.
إلا أن الأمر السوري يشكل ميدان تقاطع دقيق يضع الموقف الأميركي الجديد تحت المجهر في مقاربته للشأن الإيراني والروسي مجتمعاً.
ترتكز رؤية ترامب على اعتبار تنظيم “داعش” خطراً أول يجب التحالف لضربه مع كافة الأطراف بما فيها الأقل سوءا (وهذا ما تفعله إدارة أوباما تماما في الموصل والرقة). بشار الأسد سيء في عرف الرئيس الجمهوري المنتخب، لكن وجوده ضروري ضمن ورشة الإجهاز على التنظيم الإرهابي. وقد يتساءل أي مراقب للشأن السوري عن الدور الذي لعبه ويلعبه الجيش السوري التابع لدمشق في مكافحة داعش، ناهيك عن اتهامات بالتواطؤ بين الطرفين والمشاركة، كل من موقعه، في ضرب المعارضة المعتدلة.
لكن المتابع لليوميات السورية يستنتج أن موقف الرئيس الأميركي المنتخب يقوم بناء على غياب المعلومات وليس بناء على فائضها. يبشّر ترامب بوقف الدعم الأميركي للمعارضة لصالح النظام، فيما تلك المعارضة ما برحت تعتبر أن غياب قرار بإزاحة النظام السوري من قبل واشنطن يقف وراء صمود النظام حتى الآن، وأن ما يحظى به النظام من دعم مباشر عسكري ومالي من قبل روسيا وإيران والميليشيات التابعة لها، لا يقارن بالدعم المزعوم الذي تقدمه واشنطن للمعارضة. بمعنى آخر فإن دونالد ترامب لا يقترح إلا تمددا لموقف إدارة أوباما لجهة الحفاظ على نظام دمشق.
في هذا السياق أيضا يندرج الجهد العسكري الروسي في سوريا؛ فإدارة أوباما هي التي أتاحت حصول التدخل العسكري الروسي مباشرة منذ أكثر من عام. انطلقت العمليات الروسية بعد ساعات من لقاء جمع الرئيسين الروسي والأميركي في نيويورك على هامش قمة الأمم المتحدة. فهم العالم أن تواطؤا مّا جرى الاتفاق عليه بين واشنطن وموسكو لمواكبة الورشة العسكرية الروسية في سوريا، وأن ظهور الخلافات الأميركية الروسية في مداولات وزيريْ خارجية البلدين يتعلق بتجاوز روسيا لما كان التواطؤ الثنائي يسمح به، والذي نجح في إنقاذ نظام الأسد من سقوط كان الأسد نفسه قد لمّح إلى احتماله.
ما يقوله ترامب في موضوع سوريا هو ما رآه أوباما بكلمات وشكل آخرَيْن، وبالتالي فإن رجل البيت الأبيض الجديد لا يختلف في المضمون السوري عن رجل البيت الأبيض القديم.
يبقى أن ترامب، الذي سيمعن في تجديد وكالة أوباما لفلاديمير بوتين في سوريا، سيصطدم بما يحتاجه سيّد الكرملين من أجوبة تتعلق بأوكرانيا والدرع الصاروخي، وإطلالة الحلف الأطلسي على حدائق موسكو الخلفية، وموقع روسيا في إدارة شؤون العالم. عندها قد لا يجد بوتين الردود التي ينتظرها، وقد يكتشف ترامب أنه لا يملك إعطاء الزعيم الروسي ما يتمناه. عندها أيضاً سيعتمد ترامب على نظرية كيسينجر حول “الأولويات”، وسيكتشف فوكوياما أن لا “عصر جديد” في مواسم ترامب الداهمة.