أمام الأردن استحقاقات إقليمية مقبلة، والمطلوب من تلك الانتخابات ضبط الصراع الداخلي وفق شروط المؤسسات، بحيث يبقى الجدل داخل ضوابط تحصّن شرعية الدولة ونظامها السياسي برمته.
يعيش الأردنيون حدث الانتخابات التي ستجري يوم الثلاثاء المقبل بصفته قدراً قرره النظام السياسي في البلاد. أفاق أهل البلد على قرار حلّ البرلمان السابق (مايو 2016) بعد أن أفاقوا قبل ذلك على إصلاحات دستورية جديدة (أبريل 2016) تعزز من صلاحيات الملك الأردني على حساب صلاحيات الحكومة والبرلمان. قيل إن خطورة المرحلة التي تمرّ بها البلاد في محيط ملتهب تحتّم الإصلاحات الدستورية، فيما يبدو أن حلّ برلمان واستحداث آخر هما من عدّة مواجهة تلك التحديات العتيدة التي تهدد الأردن دولة وبلدا ونظاما.
في المحصلة فإن النظام السياسي الأردني هو من أراد لهذه الانتخابات أن تجري، ووفق قانون انتخابات جديد يدفن نهائيا ذلك القديم الذي ران على الحياة البرلمانية للبلاد في العقود الماضية. طويت صفحة نظام “الصوت الواحد” لصالح نظام “القائمة النسبية المفتوحة”، وانخفض عدد مقاعد المجلس إلى 130 مقعداً (أقل من المجلس السابق بـ20 مقعداً).
ما بين النظامين بون شاسع في روح العمل الديمقراطي وشروطه؛ فالأول جوّف العمل الحزبي وأمعن في خوائه مقابل صعود أسهم رجالات البرلمان على أسس وجاهية فئوية، فيما يُعوّل على القانون الجديد من أجل انتخاب قوائم على قواعد سياسية برامجية متآلفة أو متحالفة تتيح للناخب انتخاب مجموعة من الأسماء بعد أن اقتصر صوته في انتخابات المجالس السابقة على مرشح واحد.
أمام الأردن استحقاقات إقليمية مقبلة، والمطلوب من تلك الانتخابات ضبط الصراع الداخلي وفق شروط المؤسسات، بحيث يبقى الجدل داخل ضوابط تحصّن شرعية الدولة ونظامها السياسي برمته. ولا ريب في أن المراقب للسجال السياسي الراهن يلحظ انهماك كافة القوى في الاشتغال بورشة الانتخابات، سواء في الإقبال عليها أو في التعليق على شؤونها أو حتى بالدعوة إلى مقاطعتها، وهو أمر يصبّ في طاحونة ما يصبو إليه من قرر حلّ برلمان واستبداله بآخر. تعيد الانتخابات الحالية لإنتاج مجلس النواب الـ18 في تاريخ الأردن حيوية محلية تخفف من الاستقطاب الداخلي صوب البراكين المجاورة.
يتنفس البلد بصعوبة الحرب الداخلية في سوريا وتلك التي تندلع ضد داعش في العراق المجاور، ناهيك عن عبق المشاريع الملتبسة التي ينفخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بها على يوميات البلد وطبيعة نسيجه الاجتماعي. يلحظ المراقب بسهولة انشغالا أردنيا – أردنيا ذا طبيعة أردنية يدور حول الترحيب بما يحمله قانون الانتخابات الجديد من احتمالات لتطوير المشهد البرلماني (وبالتالي الحكومي) المقبل، وحول التشكيك في جدوى الانتخابات ونزاهتها وقدرتها على تبديل الوجوه التي قلّما تتغير تحت قبّة البرلمان وداخل النخبة السياسية منذ عقود.
واللافت في تلك الانتخابات هو مشاركة جماعة الإخوان المسلمين من خلال ذراعها السياسية “حزب جبهة العمل الإسلامي” رغم أن البعض يعتبر الأمر غير قانوني بالنظر إلى التدابير القانونية التي اتخذتها السلطات الأردنية بحقها. واللافت في الأمر أن له جانبين؛ الأول، أن الجماعة تشارك في الانتخابات تصحيحاً لما يصفه المقربون منها بـ”خطيئة” مقاطعة الانتخابات السابقة (2010 و 2013). الثاني، أن السلطات الأردنية تتيح لواجهة الإخوان السياسية الانخراط في العملية الانتخابية بعد نزاع سياسي قانوني معها أدى إلى حظر الجماعة ومصادرة مقارها، ما يعكس رغبة مشتركة في تعليق المواجهة والسعي إلى التعايش وفق قواعد تفرضها الدولة.
ورغم أن القانون الانتخابي الجديد ينشّط اللوائح الحزبية والترشح وفق برامج سياسية ما فوق وجاهية ومناطقية وعشائرية، إلا أن ما فعله القانون القديم، من فتك بالتجربة الجماعية الحزبية، قلل من خبرة المجتمع السياسي في العمل الجماعي والتكتلي وبناء التحالفات. وحدها جماعة الإخوان المسلمين تقدمت بـ19 لائحة و111 مرشحاً من بينهم مسيحيون وشركس، في سعي واضح لاحتلال حصّة وازنة داخل البرلمان العتيد، فيما عجزت بقية الأحزاب عن تقديم مجموعة لوائح على مستوى البلد (المنشقون عن الجماعة ترشحوا على 7 قوائم).
ومع ذلك فإن المراقبين يرون أن جهد الإخوان لن يتيح لهم إلا ثقلاً محدوداً يجعلهم في أحسن الأحوال أقلية وازنة (أقصى التوقعات تمنحهم 20 مقعداً من أصل 130)، فيما يلاحظ خبراء في شؤون الأحزاب الأردنية أن الإخوان أنفسهم وضعوا سقفا منخفضا لطموحاتهم، ذلك أنهم اكتووا بنار أزماتهم الداخلية وتصدّعهم وانشقاقاتهم، كما تضرروا من تصادمهم مع الدولة والذي جعلهم كياناً غير شرعي وخارجا على القانون، ناهيك عن أزمة الإخوان في المنطقة عامة منذ انهيار أحلامهم في تبوؤ صدارة الحكم بعد “الربيع العربي”.
تشي اللعبة الانتخابية الحالية بأن النظام السياسي الأردني أصبح يفضّل أن تطفو المعارضة على المسرح السياسي العام مغادرة للزواريب الخلفية والتحتية، وأنه بات يفضل إدارة العملية السياسية مع كافة المشارب الإسلامية واليسارية والقومية والشبابية داخل منظومة العمل السياسي البرلماني والقانوني على النحو الذي يحتاجه البلد في معركته لصون وحدته وحدوده وبقائه في زمن المشاريع الكبرى في المنطقة.
ورغم أن المشككين كثر في إمكانية إجراء انتخابات نزيهة شفافة لا تدخّل للدولة بها كما فعلت في ما يطلق عليه “فضيحة” انتخابات عام 2007، ورغم أن المتفائلين لا يٓعدون أنفسهم بانتخابات نظيفة على منوال تلك التي جرت عام 1989، فإن استطلاعات الرأي غير المنشورة لا تقلق الدولة ولا الأجهزة، بما يجعلها غير مضطرة للتدخل والتأثير على مجريات تلك الانتخابات. ومن الصعب التكهن علمياً بنتائج الانتخابات، ذلك أن قانون القوائم النسبية المفتوحة يُجرّب لأول مرة ويغيب عنه أي تراكم معرفي، وبالتالي من الصعب استشراف مخارجه. ومع ذلك، ورغم ما عبّرت عنه السلطات الأردنية من حرص على سلامة العملية الانتخابية، إلا أنها حريصة أيضا على ضبط نتائجها داخل هامش لا يسمح بالفوضى أو بالمآلات المجهولة.
ولا يبدو أن الانتخابات الحالية ستقلب المشهد السياسي على ما هو مُتأملٌ داخل ثنايا قانون الانتخابات الجديد. تبدو الحملات الانتخابية في فردية مرشحيها أقرب إلى السلوك الذي كان مُعتمداً في عهود قانون الصوت الواحد. لن تنتج الانتخابات أغلبية برلمانية بإمكانها تشكيل حكومة برلمانية على منوال التجربة المغربية الراهنة. فالأحزاب التي تصدّعت بفعل قانون الصوت الواحد ضعيفة وتجاربها متواضعة، وعلى البلد برمته التعوّد على مفاعيل نظام القوائم الجديد لإعادة تموضع الحراكات السياسية وفق قواعده، ما يستلزم وقتاً وتجربة وخبرة. ففيما يروم القانون إطلاق القوائم على مستوى البلد، ما زالت الحملات تنشط على مستوى العشائر والمناطق.
لكن الأمر لا يتعلق فقط بصحة الأحزاب وسلامة العمل الحزبي، ذلك أن القانون الانتخابي نفسه قد صمم لمنع تشكّل الكتل وخروج حكومات برلمانية، بما يعني أن اللعبة السياسية ستبقى داخل المتاح والمحسوب، وأن القانون الجديد سيعيد تدوير نفس الوجوه التي تمثّل سلطة المال والأمن والعشائر ومؤسسات الضغط الكبرى في البلاد، وأن القوانين الراهنة لن تردع المال السياسي وسلوكيات شراء الأصوات من الرواج والازدهار في موسم هذه الانتخابات.
يُراد للمجلس النيابي الجديد أن يرمم وعاء سياسيا عاماً قد صدّعته رياح الخارج وأن يرفع أسواراً تقي الأردن شرورا محتملة. ويراد لهذه الورشة أن تضبط عقارب الأردن وفق مواقيت وأجندات أردنية، ذلك أن البلد الذي نشأ يوماً وفق أجندات دولية قلقٌ من تدافع أجندات جديدة تطلّ بارتجال سوقيّ قد يطرق باب المملكة الهاشمية. وربما في تمتين البيت الداخلي تمرين لتصليب مناعة ضد أوبئة تنفخها الرياح المندفعة من وراء الحدود.