حين يمارس الأميركيون أعلى صنوف الضغوط على إيران سيطل الروس ليسرّبوا إلى طهران أن خلاصها في يدهم وضمان سلامة نظامها رهن باحترام قيود ليست بعيدة أبدا عن دزينة شروط بومبيو. أعيدوا قراءة تلك الشروط بعيون روسية ستلحظون بوتين مبتسما.الجمعة 2019/05/10
بوتين حصل على الرئيس الذي يريد
لا ينتهي التواطؤ المعلن والمضمر بين روسيا والولايات المتحدة في القضايا المتعلقة بالشرق الأوسط. تكاد الشواهد لا تحصى وهي داخل كل ملف تفصح عن تقاطع في المضمون قد يغلفه التعارض في الشكل. يكفي تأمل مواقف واشنطن وموسكو المتعلقة بملفات اليمن وليبيا وسوريا وإيران، لاستنتاج أن مصالح الكبار تقتضي التوافق على حساب الصغار.
غير أن الأمر يبدو جليا في الحالة السورية، وقد يظهر فاقعا في الحالة الإيرانية. وفي كلتا الحالتين تطل واشنطن معادية لأجندات روسيا، فيما تتقدم موسكو في مقارباتها وفق الظلال الأميركية وداخل الهامش الذي توفره واشنطن.
لم يطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قاذفاته باتجاه سوريا في سبتمبر 2015، إلا بعد حصوله على ضوء أخضر قبل ساعات في نيويورك من الرئيس الأميركي باراك أوباما. ولم تتمكن العسكرتاريا الروسية من تحقيق تفوق ناري في ذلك البلد، إلا بفضل قيام التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة بضبط مستويات التسليح الذي تمتلكه المعارضة السورية، وصولا إلى وقف توفيره نهائيا.
تحركت القوة الروسية في سماء سوريا متحررة من أي اعتراض ناري على عكس ما واجه القوة السوفياتية في سماء أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي. هناك حمل “المجاهدون” أسلحة الفتك الأميركية، وهنا حُرمت تلك الأسلحة من العبور إلى ترسانة المعارضين. هناك خاض السوفيات معركتهم الأفغانية ضد تحالف محلي إقليمي دولي تقوده الولايات المتحدة، وهناك خاض الروس معركتهم السورية متحالفين في الظل مع العالم الغربي بأجمعه بزعامة واشنطن.
سحب الروس سلاح دمشق الكيماوي، أو ادعوا ذلك، عام 2013 تلبية لمطالب أميركية إسرائيلية ملحة. عملت آلة الحرب لدولة كبرى مثل روسيا على القيام بالمهمة التي تردّد التحالف الغربي في القيام بها في سوريا. فإذا ما كانت برلمانات لندن وباريس وكونغرس واشنطن لم تشجع حكوماتها على خوض حرب “قذرة” في سوريا بعد دروس تلك الحروب في أفغانستان والعراق وليبيا، فإن “دوما” موسكو جاهز لتزويد الكرملين بما يحتاجه من قرارات لتشريع حراك عسكر بوتين في العالم.
يفهم بوتين أنه لا يستطيع المضي قدما في سوريا دون الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ويدرك الرجل أن خلاف واشنطن مع تركيا- أردوغان وإيران- خامنئي يعزز دوره في مقاربة شؤون المنطقة.
وربّ قائل إن إدارة الرئيس دونالد ترامب بعد إدارة أوباما توفّر لرجل الكرملين القوي البيئة الحاضنة لسياسة خارجية روسية جديدة في الشرق الأوسط، لا بل إن كثيرا من مناورات واشنطن العدائية ضد خصومها تخصّب ثمارا مطلوب أن يقطفها بوتين لصالح ترامب في زمان ما وفي مكان ما.
ليس في الأمر ماكيافيلية مبالغ بها. هي لعبة الأمم بنسخاتها الحديثة والخبيثة. لا تناقض بين الغرب عامة وروسيا في الشأن السوري. لا مشكلة لواشنطن وباريس ولندن وبرلين في الاستمرار في رعاية الوكالة الروسية في سوريا.
تردد هذه العواصم أن انخراطها في ورشة الإعمار في ذلك البلد رهن بعملية سياسية ناجعة تدخل تغييراً في قماشة النظام في سوريا. بكلمة أوضح لا مشكلة لتلك العواصم مع الأجندة الروسية الطموحة في ذلك البلد. مشكلتها تكمن فقط في بقاء نفوذ إيران وهيمنتها على رأس السلطة في دمشق.
يطرب بوتين لهذا الموقف. لا بل يُسكت منظومة دفاعاته حين تجول طائرات التحالف أو تلك الإسرائيلية لتضرب أهدافا ومواقع وقوافل يفترض، نظريا، أنها حليفة لموسكو. لم يعد تناقض المصالح بين موسكو وطهران خفيا في سوريا. في ذلك حرب ميليشيات وتناحر ألوية عسكرية وتسابق للهيمنة على مرافئ البلاد.
تظهر روسيا إشارات متقطعة تعبّر فيها عما تريده ويريده العالم من إيران. بات خروج كافة القوى الأجنبية، جيوشا وميليشيات، مطلبا معلنا في موسكو، يرتفع صداه ويخبو وفق عزف منضبط تتكثف إيقاعاته مواكباً ترانيم روسية أميركية متبادلة.
على هذا يمكن تخيّل النشوة التي يشعر بها بوتين حين ترسل الولايات المتحدة حاملة الطائرات “أبراهام لنكولن” وسرب من القاذفات (بما في ذلك الـB52 الشهيرة) ومجموعة من القطع الحربية صوب التخوم المائية الإيرانية.
هي هدايا يرسلها ترامب صوب بوتين من خلال المناسبة الإيرانية. يعلن الأميركيون الحرب التي لطالما هوّل بها جنرالات الحرس الثوري في إيران. تُحوِّل واشنطن الصدام الناري من طور الأبجدية إلى طور الجدية الفعلي. باتت واشنطن ملحة تحتاج إلى جرّ إيران إلى طاولة المفاوضات، حتى لو اقتضى الأمر صداما ما ولو عن طريق حادث عرضي.
تلقي طهران حجراً كبيراً داخل المياه العكرة. يطل الثنائي روحاني وظريف مهددين بإعادة تشغيل الورشة النووية الكبرى. يقف أمام أبواب واشنطن وطهران “الجنرال وقت”.
تناور إيران معوّلة على الوقت. تعتبر إيران أن الانتخابات الرئاسية الأميركية العام المقبل قد تزيح هذا الرئيس، وتأتي ببديل أكثر حنانا ومرونة. لم يعد أمام ترامب فائض وقت لكي يترك للزمن أن يمعن في إرباك نظام الولي الفقيه.
بدا تصعيد واشنطن العسكري (سواء في إرسال حاملة الطائرات أو في تبرع كافة أجهزة المخابرات الأميركية في الكشف عن معلومات داهمة عن خطط إيرانية لمهاجمة أهداف أميركية) تطورا نوعيا ضاغطا يضاف إلى رزم العقوبات المعلنة وتلك المقبلة. تريد واشنطن أن تستعيد زمام الوقت من يد طهران وتجعله كارثة بالنسبة لإيران.
يحتاج بوتين الروسي إلى ولاية ثانية لترامب الأميركي على رأس الولايات المتحدة. سيحمل قيصر الكرملين وقودا إلى ورشة الرئيس الأميركي الرئاسية. تحرك القراصنة الروس بكثافة لصالح ترامب ضد هيلاري كلينتون في انتخابات عام 2016.
حصل بوتين على الرئيس الذي يريد وبرأت التحقيقات الأميركية ذلك الرئيس من أي شبهة عمالة لصالح “العدو” في موسكو. وسيعمل بوتين بسبل جديدة لحمل الماء غزيرا إلى طواحين صديقه داخل البيت الأبيض.
تعرف واشنطن على نحو يقيني أن إيران آتية إلى طاولة المفاوضات. كابرت كثيرا قبل ذلك. عاند وليّها الفقيه وهدد جنرالات حرسها، لكنها بالنهاية أرسلت وفودهم إلى مسقط لإبرام الاتفاق النووي الشهير في فيينا عام 2015. سيفعلون الشيء نفسه هذه المرة، وهم لا يعرفون غير ذلك ولا يجيدون إلا تلك الحرفة. تكابر طهران وتبالغ في ذلك وتنتظر من ينزلها عن الشجرة للتأقلم برشاقة التجار مع وقائع السوق.
سيكون على روسيا أن تلعب هذا الدور. وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف يحجّ إلى موسكو للقاء نظيره. وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو سيزور موسكو الأسبوع المقبل ليناقش مع نظيره الروسي طرق الفلاحة وأخبار الغلال.
لا تملك إيران إلا روسيا ملاذا بعد أن ثبت أن الأوروبيين لا يملكون ولا يريدون أن يكونوا بديلا يعادي واشنطن من أجل عيون طهران. وحين يمارس الأميركيون أعلى صنوف الضغوط على إيران سيطل الروس ليسرّبوا إلى طهران أن خلاصها في يدهم وضمان سلامة نظامها رهن باحترام قيود ليست بعيدة أبدا عن دزينة شروط بومبيو. أعيدوا قراءة تلك الشروط بعيون روسية ستلحظون بوتين مبتسماً.