يمثل التحوّل الحمساوي واجهة من واجهات المأزق الذي يعيشه الإسلام السياسي هذه الأيام.
قد يبدو من المبكّر الحكم التام على التطوّر اللافت في قرار حركة حماس حلّ اللجنة الإدارية في قطاع غزة. بيد أن الثابت أن حماس تواصل تحوّلاتها الأخيرة منذ إصدارها لوثيقة المبادئ والسياسات العامة في أول مايو الماضي، والتي حددت بها استراتيجياتها الجديدة في ما يتعلق بقضايا العلاقة مع المحتل كما في مقاربة العلاقة مع جماعة الإخوان المسلمين.
ورغم أن التحوّل الخجول الحذر لم يتجاوز إطاره النظري وبقي مترددا مرتبكاً في العبور نحو دوائر الفعل، إلا أن الحركة لا تتحرك فقط وفق عقائد وأيديولوجيات يتم النفخ بها أو جعلها أبجديات تجبّها أبجديات مستجدة، بل إن حافزها للانتقال إلى تحت المظلة المصرية مردّه أمر واقع تحدده جغرافيا قطاع غزة واعتراف جواني داخل الحركة بالعجز عن الخروج من عنق الزجاجة دون رعاية القاهرة.
قد لا يكون تحرّك القيادي الفتحاوي محمد دحلان باتجاه حماس إلا حاجة حمساوية للنزول عن الشجرة. وفّر دحلان وصحبه مبرر التواصل مع الخارج، ومع القاهرة وأبوظبي تحديدا، للسعي لإيجاد فضاءات خلاص لم تعد توفّرها حصرية علاقات حماس مع الدوحة وأنقرة بعد طهران. بكلمة أخرى يمثل التحوّل الحمساوي واجهة من واجهات المأزق الذي يعيشه الإسلام السياسي هذه الأيام، بحيث أن فروعه تسلك طرقاً مغايرة للخطاب المركزي الخارجي الذي بدا متقادماً ينتمي إلى أزمنة غابرة.
لا يغيب عن بال القاهرة لحظة أنها في تعاملها الحالي مع حركة حماس إنما هي تتعامل مع الفرع الفلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين. صحيح أن وثائق حماس الأخيرة تحرّت أخذ مسافة إلى حد الاستقلال عن الجماعة الأم، إلا أن المنخرطين في ورشة التطبيع الحالي مع حماس لا يكترثون كثيرا لما تتخصب به الوثائق من تبدلات نظرية لا يمكن أن تلغي الحكاية الحقيقية لحركة الشيخ أحمد ياسين. وفي تولي جهاز المخابرات المصرية أمر التعامل مع حركة حماس ومع مسألة المصالحة الفلسطينية الفلسطينية، ما يفرج عن مكنونات فلسفة القاهرة في هذا الشأن. فالمدخل أمني يعالج بأدوات أمنية ولغة وأبجديات الأمن.
هو صراع إرادات يجري في كل المنطقة، وهو صراع إرادات استطاعت مصر فرضه على حركة حماس في قطاع غزة. وهو صراع إرادات عنوانه الأصيل هو أمن مصر الاستراتيجي، ذلك أن مصر لا تستطيع أن تتسامح مع حالة استعصاء تمثلها حالة حماس في خاصرة سيناء. من ذلك العنوان تتراجع حماس إلى موقعها الأصلي داخل الحراك الفلسطيني بصفتها جزءا لا كلاً في حكم غزة، ومن ذلك العنوان تحل حماس “حكومتها” اللجنة الإدارية من أجل الإنخراط المتوخى حكومة فلسطين الوطنية.
لو كان هناك من خيار آخر لدى حركة حماس لما سلكت طريقا ينهي احتكارها لحكم غزة. أوصلت القاهرة رسائل عقابية قاسية لحماس في السنوات الأخيرة، فيما أتت تدابير الرئيس محمود عباس العقابية الأخرى لترفع من منسوب اليأس الغزي وتدفع الجميع، حماس وسلطة فلسطينية، لطرق باب القاهرة بإلحاح توسلا لحلّ ينهي مأساة غزة ومأساة انقسامها عن الضفة الغربية.
ولو كان هناك من خيار آخر لحركة لحماس لما ذهبت تلاقي محمد دحلان ووفوده مع ما يمثله الرجل من امتدادات إقليمية تتناقض مع، وتعادي تماما، امتدادات حماس التقليدية في الإقليم. وفي آلية التواصل التي زرعها دحلان وأثمرت عنباً في القاهرة نموذجٌ تواطأَ داخله كافة أطراف التفصيل الغزي لممارسة السياسة بصفتها علم إدارة المصالح والمصالح فقط.
لكن المفارقة أن تراجع حماس لا يمثل انتصارا للسلطة الفلسطينية ورئيسها، بل انتصارا كاسحاً لخيارات مصر. فقد هرّع الرئيس عباس لزيارة مصر والاجتماع بالرئيس عبدالفتاح السيسي ليس بالضرورة من باب البحث عن مداخل للمصالحة الفلسطينية، بل من باب القلق عما تمثّله حركة محمد دحلان من ترجيح لكفة الأخير في القطاع. ولا ريب أن ان ما لمّح إليه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مؤخراً بشأن المصالحة الفلسطينية ما يفرج عن استراتيجية واحدة ينتهجها خط روسيا مصر الامارات لضم محور فلسطين إلى الفضاء الاستراتيجي الواحد لذلك الخط في المنطقة. وداخل كل هذه التطورات بدا أن مصر مدخلا ومظلة ورقما صعبا في معادلة غزة بالنسبة لكافة اللاعبين المهتمين أو المستيقظين على الهمّ الفلسطيني.
بدا إعلان الأحد الماضي من خلال بيان صادر عن حماس مناسبة لإعلان خريطة طريق أخرى لإنهاء الانقسام الفلسطيني الذي بات عيبا لا مبرر له. بيد أن الأمر، إذا ما تحولت مفاعيله إلى انجازات، يؤسس لمناخ إقليمي آخر يسحب البساط من تحت تيارات وعواصم إقليمية امتهنت تجارة القضية الفلسطينية كواجهة من واجهات أجنداتها البعيدة عن فلسطين وقضيتها. تسعى القاهرة لأكل العنب لا لقتل الناطور، وتتعامل مع حماس ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم غير عابئة بميول حماس وشططها في البحث عن تثبيت تحالف مع تركيا أو تواصل مع إيران.
تبدو القاهرة وكأنها تقول لحماس “إذهبي أنى شئتي فخراجك عندي”. وتبدو حماس أيضا قد فهمت ذلك جيدا، وهي في مناوراتها داخل تيار الممانعة بزعامة طهران أو داخل التيارات الإسلاموية برعاية أنقرة لا تسعى إلا إلى إحداث ضجيج بعيد يعاد تطهيره وتصويبه داخل معايير مصر وتحالفاتها الإقليمية الدولية.
وإذا ما كانت مصر هي الرابح الأول من ذلك التطوّر الذي رسمته يوما بعد آخر ومن خلال مفاوضات ماراثونية دقيقة، فإن إسرائيل هي الخاسر الأكبر.
بنى الإسرائيليون استراتيجيتهم في التعامل مع الطرف الفلسطيني بصفته شريكاً غائبا لا أمل في ظهوره. طاب لإسرائيل مقاربة فلسطين بصفتها فصائل متنازعة وشرعيات متنافسة وحراك تتعدد وتتناقض سقوفه. سهُل على حكومة تل أبيب بيع سقوط حل الدولتين بصفته تعبيراً عن واقع وليس تعبيراً عن إرادة إسرائيلية. بدا أن العواصم الدولية، لا سيما واشنطن، باتت أيضا تتعامل مع الانقسام الفلسطيني، بصفته واقعا بنيويا دائماً وليس حادثاً عابرا في التاريخ الحديث للحركة الوطنية الفلسطينية. وعليه فإن الدينامية المصرية في مسألة العبور من تطبيع الوضع مع قطاع غزة باتجاه إرساء الوحدة الفلسطينية، هدفها كسر حلقة الفراغ التي أحدثها ذلك الانقسام بين حماس وفتح منذ عام 2007 على طريق إعادة تفعيل مفاوضات إسرائيلية فلسطينية عجز العالم أجمع عن إعادة انعاشها.
يبقى أن “الانجاز” المصري يندرج حكماً ضمن الصراعات الحالية في المنطقة، سواء تلك المتعلقة بالأزمة القطرية أو تلك المتعلقة بالخصومة العلنية بين القاهرة وأنقرة أو تلك المرتبطة بحراك إيران وحساباتها في المنطقة. ويبقى أيضا أن صمود المنجز يرتبط أيضا بمدى قدرة حماس على الانطلاق من حسابات فلسطينية خالصة دون أن تكون صدى لأجندات تابعة لهذه العاصمة أو تلك. ويبقى أيضاً أمر ذلك المنجز متعلق بمستويات المعاندة التي قد تفعّلها التحالفات النقيضة والتي كلما احتدمت في ميدان بعيد قد تظهر أعراضها داخل البيت الفلسطيني.
ميدل ايست أونلاين