في الأيام الأولى لانتقالنا إلى لندن، التقيت الزميل العزيز رافائيل كاليس، وسألته عن الحياة في المدينة. كل ما عَلِق في ذهني قوله: «إنها المدينة التي لا تموت فيها الجريمة». بعد قليل، أحيل مدير عام الشرطة على المحاكمة بتهمة الرشوة، وحُكم عليه بالسجن، ولم ينفعه أنه صاحب أعلى منصب أمني.
عاد كلام الزميل العزيز إلى ذاكرتي، عندما أعاد القضاء البريطاني فتح التحقيق في اغتيال الرسام الفلسطيني ناجي العلي، مناشداً «الضمائر النائمة أن تستفيق». أي لعلّ الذين كانوا يخشون الكلام، أصبحوا قادرين على قول الحقائق الآن.
تباً للقضاء البريطاني ولقوانينه ولسمعته التاريخية. فمن قال له إننا نريد أن نعرف؟ نحن لا نغير تقاليدنا. وتقاليدنا تؤكد أن الحق على القتيل، والمعتدي هو العصفور، والجريمة هي التغريد.
في لبنان يُقتل رئيس جمهورية، أو رئيس وزراء، أو وزير ناصع، أو صاحب أعرق وأهم جريدة، من دون أن يجرؤ القضاء على فتح تحقيق. فالجريمة لم تقع. اغتيل الرئيس رينيه معوض في ذكرى الاستقلال، لكي تكون الرسالة متعددة. تلك هي بلاغة الاقتضاب.
لا يزال الكاتب الليبي هشام مطر يبحث حتى الآن عن عظام والده في سجون الجماهيرية. ولا يزال لبنان يبحث عن سبب ومكان إخفاء الإمام موسى الصدر في طرابلس. ثم يأتي هذا القضاء البريطاني، بعد ثلاثين عاماً، ليخاطب الضمائر النائمة، بينما لا يجرؤ العرب على السؤال عن آلاف المعذبين، والمقابر الجماعية، وآلاف الجلادين الذين لم يسمعوا لحظة عويل ضحاياهم.
أريحوا أنفسكم. الجاني هو القتيل. وناجي العلي كان ريشة عبقرية لا تُطاق، وفلسطينياً وقحاً لا يهاب ولا يَسترضي. فما الحل إذن؟ الحل رصاصة تزيل أشهر ريشة فلسطينية، وبعد أيام يغلق ملف بلا تحقيق.
غلط: لندن ليست بيروت، ولا من حوَّل فوضاها وجبنها إلى مركز للتصفيات العربية.
وتباً للقضاء البريطاني، وحده يتذكر شهداءنا، ووحده يذكّرنا بأنه حتى للقتلة ضمائر يجب أن تستيقظ بعد نوم، أو خوف، أو مجرد عادة قديمة في إشاحة النظر. إرضاء القاتل أهم من إرضاء القتيل. وعلى القضاء البريطاني أن يفهم ذلك. مجرد «لعبة إنجليزية أخرى». ناجي العلي انتحر برصاصة من خلف العنق.
نقلاعن :العربیه