حرب نتنياهو الداهمة/محمد قواص

في حواف ما قاله نتنياهو في وزارة الدفاع، ما يؤشر على اندفاع داخل النخبة الحاكمة في إسرائيل نحو فلسفة مفادها حاجة إلى حرب تعيد ترتيب كثير من الفوضى داخل خرائط الأمن الاستراتيجي لإسرائيل.


نتنياهو يقتات من الخوف من أجل البقاء
حين رأى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أن عاصفة داهمة ستطيح بحكومته هرب نحو الحرب. أخرج الرجل القوي في إسرائيل من أكمامه ورقة لم تكن تعرف بها إسرائيل. أعلن في خطبة (راح المعلقون إلى حد مقارنتها بخطبة ونستون تشرشل في بريطانيا بعد توليه رئاسة الوزراء أثناء الحرب العالمية الثانية) أن إسرائيل ذاهبة إلى حرب، هي كبرى، إلى درجة أن جسامتها لا تحتمل خفة إسقاط حكومة والذهاب نحو انتخابات تشريعية مبكرة.

بدت إسرائيل دون قيادات تتشارك في صنع القرار والسياسة. بدا أن نتنياهو الوحيد الممسك بدفة القيادة في البلاد، والوحيد الممسك، على ما يبدو، بقرار السلم والحرب. ذهب إلى مقر وزارة الدفاع في بلاده بعد أن عين نفسه وزيرها بعد استقالة أفيغدور ليبرمان، ليعلن للعسكريين شيئا لا يعرفونه عن حرب كبرى قادمة.

غادر ليبرمان الحكومة والمنصب احتجاجاً على قرار نتنياهو وقف إطلاق النار مع قطاع غزة، ليطلّ الأخير من الشباك للحديث عن حرب تتجاوز هموم غزة.

يعترف الخصوم في إسرائيل ببراعة نتنياهو في اللعب بكافة التيارات السياسية صوناً لتفوقه على رأس الحكومة. لم تهزمه استحقاقات الداخل منذ عام 2009 في انتخابات عادية أو مبكرة، وأحسن التعامل مع تحديات الخارج سواء أتت من باراك أوباما الذي لم يحبه وأجاد تجاهله وراح يحرّض الكونغرس الأميركي في واشنطن ضده، أو تلك التي تمثّلت في الخطر النووي لطهران ونيران حلفائها في الجنوب، في غزة، وفي الشمال، في لبنان وسوريا.

بدا أنه يطبخ مع القاهرة هدنة طويلة الأمد مع قطاع غزة تعيد ترتيب أوراق تعامله مع الحالة الفلسطينية برمتها، وهو ما يقلق أهل السلطة في رام الله، فيما توفر الحملة غير المسبوقة التي تخوضها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضد إيران فرصة تاريخية لشلّ طموحات طهران في أن تشكّل قلقا وجودياً حقيقيا ضد “دولة اليهود الأبدية”.

يدرج المحللون في إسرائيل خطبة نتنياهو المحارب في سياق تكتيكي هدفه إنقاذ حكومته وتجنب المخاطرة في الذهاب نحو الانتخابات المبكرة. كان لنتنياهو ذلك. حاول وزير التعليم العالي ورئيس حزب “البيت اليهودي”، نفتالي بينيت، ابتزاز نتنياهو من خلال التلويح باستقالته في حال لم يعين وزيراً للدفاع مكان ليبرمان المستقيل. طبعا تضامنت وزيرة العدل من “البيت اليهودي” أيليت شاكيد مع بينيت وهوّلت باستقالة ثالثة.

أنزل نتنياهو المتمردين عن الشجرة ووفّر لهم ورقة مثالية للتراجع عن التهديد بالاستقالة. أَنِسوا لحجج نتنياهو الحربية دون أن يقنعهم أمر ذلك بالضرورة. أدلى الحردانون بدلو يشبع حاجات قواعدهم الانتخابية المتطرفة إلى مزيد من التشدد، وعادوا عن ذلك الحرد اتساقاً مع توق نفس القاعدة، ربما، إلى حرب تردّ عنهم ما يهدد وجود إسرائيل ووجودهم المتقدم داخلها.

يقتات نتنياهو وحلفاؤه اليمينيون من الخوف من أجل البقاء. سقطت داخل إسرائيل تيارات كانت توصف بالتسووية والسلموية. ولا يتّسق مفهوم السلم داخل إسرائيل مع ذلك الذي رفعه العرب إلى مرتبة القمة حين كشف نظامهم السياسي الرسمي عن خطتهم للسلم في قمة بيروت عام 2002. بيد أن تيار السلم في إسرائيل، وهو يساري الهوى، هو الذي نظّر لمسألة الانسحاب من جنوب لبنان قبل سنوات عديدة من تنفيذ ذلك عام 2000، ودفع للتفاوض سراً مع “الإرهاب”، قبل أن يتحوّل الأمر علنا إلى اتفاقات أوسلو عام 1993.

إسرائيل تدرك أن حروبها دخلت في طور جديد باتت فيه مكلفة، ولها طعم الخسارة حتى في حال النصر. تسعى واشنطن للتعامل مع الحالة الإيرانية بأدوات لن تكون تلك العسكرية من ضمنها

ما زال نتنياهو ينهل من تلك “الخطيئة” التي ارتكبها الثنائي إسحاق رابين – شمعون بيريز ليزوّد سلطانه بوقود الخوف والتخويف سبيلاً وحيداً للإمساك بالحكم في إسرائيل. يردد نتنياهو أنه لا يريد انتخابات مبكرة قد يتسرب منها، كما تسرّب عام 1992، يسار يأتي بـ”أوسلو” أخرى. لم يعد للسلم سوق داخل الكتل الناخبة، فهي في كل انتخابات تؤكد نزوع المجتمع الإسرائيلي نحو التطرف والتشدد ومقت الآخر والتحصن وراء “الجدار” داخل غيتو الخوف الميثولوجي. وبالتالي لا داعي إلى تغيير هذا النزوح بالمخاطرة باستيلاد نقائضه المحتملة.

استطاعت حكومات نتنياهو أن تثبت للداخل الإسرائيلي أن خيار الردع هو القاعدة الأولى للأمن. لم تخض إسرائيل في عهد نتنياهو حرباً كبرى، تنخرط فيها عواصم ومنابر وتصدر عنها قرارات أممية، كتلك التي خيضت ضد لبنان عام 2006. خاض حروبا دموية ضد غزة “تفهّمها” العالم من أجل أمن إسرائيل. حتى تحقيقات الأمم المتحدة، على جسارتها، بقيت حبراً على ورق، أظهرت “انحياز” المنظمة الأممية وفق المظلومية التي دفع بها نتنياهو والتي استجاب لها هذه الأيام دونالد ترامب في واشنطن وسفيرته لدى الأمم المتحدة في نيويورك، نيكي هايلي.

لكن نتنياهو يحتاج إلى حرب هذه الأيام. أزاح المشاغبين عن دربه لكن قضايا الفساد التي تلاحقه تهدد بقاءه. ذكّر في خطبته الحربية بماضيه العسكري، وذكّر عتاة وزارة الدفاع أن رؤساء وزراء سابقين من دافيد بن غوريون إلى إيهود باراك، مرورا بليفي أشكول ومناحيم بيغن وإسحق رابين قد تولوا هذه الوزارة.

قد يكون في كلمات نتنياهو عبق مناورة سياسية لمنافع ميكيافيلية داخلية وضيعة، بيد أن في حواف ما قاله نتنياهو في وزارة الدفاع، ما يؤشر على اندفاع داخل النخبة الحاكمة في إسرائيل نحو فلسفة مفادها حاجة إلى حرب محسوبة تعيد ترتيب كثير من الفوضى داخل خرائط الأمن الاستراتيجي لإسرائيل.

أفصحت مئات الغارات والعمليات العسكرية الإسرائيلية في سوريا أعراضاً وعلامات لواجهة من واجهات الحرب التي تفتش عنها إسرائيل. تتسرّب من تقارير الجيش والمخابرات الإسرائيلية مراقبة مقلقة ودؤوبة للأخطار شمال إسرائيل، التي وإن كانت مقيّدة محدودة في سوريا وفق عوامل المسار السوري المتعدد الأطراف، فإن تلك المطلة من لبنان تمثّل واقعا حقيقا متصاعداً لا مفر من التعامل معه يوما، مهما تم تأجيل أمر ذلك.

تدرك إسرائيل أن حروبها دخلت في طور جديد باتت فيه مكلفة، ولها طعم الخسارة حتى في حال النصر. تسعى واشنطن للتعامل مع الحالة الإيرانية بأدوات لن تكون تلك العسكرية من ضمنها.

يدرك نتنياهو أن الحاكم في إيران يملك براغماتية انقلابية حين يدرك حواف الممكن والمستحيل. ويقلق نتنياهو من إمكانية توصل واشنطن والعالم إلى صفقة جديدة مع طهران لا تذهب مذهب ترامب ومايك بومبيو وجون بولتون. فحتى لو لملم العالم أوراق التفاوض وتوصل إلى اتفاق مع نظام طهران الذي لا يريد أحد إسقاطه، فإن نتنياهو الذي كان سعيداً بما حققته زيارته لمسقط من إنجاز معنوي كبير، يدرك أن عليه التعامل مع ظواهر شاذة لن تشملها أية اتفاقات.

في الكواليس خلف نتنياهو من يهمس وربما يسرب ويضلل بأن “حنان” نتنياهو لتحييد جبهة غزة من خلال اتفاق سريالي المنطق مع حركة حماس، يعود إلى أن إسرائيل باتت تعتبر خطر غزة هامشا، مقارنة مع أخطار وجودية كبرى باتت متنا.

يراقب نتنياهو، بقلق، حرد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي بالكاد التقاه بضع دقائق في باريس، فيما طائرات التجسس وعيون إسرائيل ترصد، ساعة وراء ساعة، تعملق خطر صواريخ حزب الله في لبنان. الأمر في جسارته يستحق أن يستفيد نتنياهو من ستاتيكو مدته عام يبقيه على رأس حكومته، إلى أن يقرر مصيره في الانتخابات المقبلة في موعدها المعتاد في نوفمبر من العام القادم 2019.

لكن بالنهاية فإن قرار الحرب، كما قرار السلم، يحدده مزاج نتنياهو وحساباته الانتخابية وطموحاته في الحكم. هنا فقط سر السلم في غزة والتلويح بحرب قادمة في أمكنة أخرى.