عجلة لافروف إلى إسرائيل | محمد قواص |


بدا السجال الحاد المندلع بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو طارئا على قضية عنوانها القوانين المتعلقة بقومية الدولة في إسرائيل، لكن لبّها الحقيقي يدور حول مسألة إستراتيجية أخرى عنوانها مستقبل التسوية في سوريا.

فجأة يتقدم العامل الإسرائيلي داخل الجدل حول مستقبل سوريا بصفته أولوية الأولويات. ظهر ذلك جلياً في المؤتمر الصحافي الذي جمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنظيره الأميركي دونالد ترامب في أعقاب قمتهما الشهيرة في 16 من يوليو الجاري. سُئل الرئيسان عما توافقا عليه حول سوريا فكان جواب ترامب لافتا: إسرائيل ثم إسرائيل ثم إسرائيل.

ولا يعتبر العامل الإسرائيلي جديدا على مجريات الحدث في سوريا منذ اندلاع اشتعال بركانها عام 2011. يذكرُ المراقبون حين استدعى رامي مخلوف ابن خال بشار الأسد في بدايات تفجّر ذلك البركان السوري العامل الإسرائيلي محذرا من أنه “لن يكون هناك استقرار في إسرائيل إذا لم يكن هناك استقرار في سوريا”. وسواء كان التحذير تهديدا أو تودّدا، فإن تل أبيب راقبت بعناية تطور التدهور في سوريا، مسرّبة شروطا وقواعد لطالما احترمها نظام دمشق كما المعارضة.

لم تخف المنابر الإسرائيلية قلقها من المجهول الذي سينتج عن فرضية سقوط النظام السوري. أقلام إسرائيل أثنت على دور النظام السوري منذ الأسد الأب، انتهاء بالأسد الابن، في شل جبهة الجولان وإخراجها نهائيا من دوائر الخطر الحدودي المحدق بأمن إسرائيل. لم يسجل على الحدود مع سوريا منذ تفاهمات وقواعد فك الاشتباك لعام 1974 أي اختراق يكسر سكينة الجبهات هناك.

وفق ذلك الوعي العام لدى أجهزة إسرائيل السياسية والأمنية لم تسوّق اللوبيات الإسرائيلية في الولايات المتحدة لأي تغيير للنظام السوري لدى الإدارة الأميركية. وينقل عن مسؤولين سابقين في إدارة باراك أوباما أن تيارات الضغط الإسرائيلي مارست ما يشبه حملة علاقات عامة لاستبعاد أي جهد دولي، أميركي خصوصا، لإسقاط النظام. وتتذكر تيارات المعارضة السورية أن السفير الأميركي في دمشق، روبرت فورد، كان قد أكد لها منذ بدايات الحراك السوري أن لا سقوط لنظام الأسد وفق سياسة واشنطن. ومعروف أن فورد جاهر بانتقاداته الشديدة لتلك السياسة بعد أن انتهت مهامه الدبلوماسية وغادر وزارة الخارجية في بلاده.

بيد أن بروز العامل الإسرائيلي في تقرير مسار ومصير سوريا بدا نافرا جلفا بالمعنى الدبلوماسي داخل الظروف التي أسست لبداية التحرك العسكري الروسي عام 2015. لم يبدأ الهجوم الروسي في سبتمبر من ذلك العام إلا بعد اجتماع غامض بين بوتين وأوباما على هامش المؤتمر السنوي العام لمنظمة الأمم المتحدة في نيويورك. وما كان لهذا الاجتماع أن يكون منتجا للرعاية الأميركية الملتبسة للورشة الروسية لولا وجود تفاهمات كاملة كانت قد تمت قبل ذلك بين سيد الكرملين ورئيس الوزراء الإسرائيلي.

انتقلت تل أبيب في إطلالاتها الميدانية على سوريا من مطلب بات متقادما حول إبعاد أي تواجد للقوات التابعة لإيران عن حدودها لمسافة تكثر تكهنات القياس حولها، إلى مطلب إخراج إيران، عسكرا ونفوذا ووجودا، من كافة الأراضي السورية

تكاد الرعاية الغربية -الأميركية الأوروبية أساسا- لآلة الحرب الروسية في سوريا مستندة على ما أمّنته تفاهمات موسكو- تل أبيب من ضمانات لأمن إسرائيل. جرى تعايش شيطاني قد يكشف المستقبل خيوطه بين إسرائيل وإيران تحت سقف روسيا. سمح ذلك التعايش بأن تتحرك آلة الحرب الإيرانية من مستشارين وقوات وميليشيات تابعة داخل الجبهات السورية طالما أن ذلك لا يهدد أمن إسرائيل، وأن تتحرك هذه الأخيرة لضرب مواقع وقوافل وقواعد ومخازن تابعة لإيران واغتيال شخصيات موالية لطهران طالما ترى تل أبيب أنها تشكّل خطرا على أمنها. بدا أن طهران كانت تشعر أنها رابحة في هذه الحسبة الخبيثة.

احترمت إيران وحزب الله وبقية الميليشيات الرديفة القواعد الإسرائيلية، ولم يحصل أي رد نوعي يخترق هذه التفاهمات. كان واضحا أن حركة إسرائيل فوق الأراضي السورية لا تحظى فقط بغضّ طرف روسي، بل حتى بتواطؤ كامل ليس أوله توفير الخدمات المخابراتية، وليس آخره “إطفاء” كافة أدوات الردع الروسي الدفاعي داخل سوريا.

والواضح هذه الأيام أن إسرائيل تنتقل في مقاربتها لـ”الحالة” السورية من مرحلة الردّ الموضعي إلى مرحلة ما تريد رسمه داخل خرائط التسوية النهائية في سوريا. انتقلت تل أبيب في إطلالاتها الميدانية على سوريا من مطلب بات متقادماً حول إبعاد أي تواجد للقوات التابعة لإيران عن حدودها لمسافة تكثر تكهنات القياس حولها، إلى مطلب إخراج إيران، عسكرا ونفوذا ووجودا، من كافة الأراضي السورية. وإذا ما كانت قمة هلسنكي لم تفصح عن اتفاق ما حول هذه المسألة ومدى موافقة بوتين على ذلك، إلا أن نتنياهو يقرأ في المشهد الدولي المطل على الشأن السوري ما يجعله متطلبا ذاهبا إلى الحدود القصوى في ما يتوق إليه من إخلاء كامل لسوريا من الحضور الإيراني.

يشعر بوتين بجسامة “المعضلة” الإسرائيلية إلى درجة إيفاد وزير خارجيته ورئيس أركان جيشه إلى إسرائيل في زيارة عاجلة أُريدَ لها أن تظهر بهذا المظهر الدراماتيكي. يعلم رجل روسيا القوي أن ديمومة الرعاية الأميركية الغربية لنهائية النفوذ الروسي في سوريا تشترط الأخذ بعين الاعتبار كافة مواطن القلق الإسرائيلي وهواجس الأمن في تل أبيب. بدا أن إسقاط مقاتلة السوخوي السورية على الحدود مع سوريا قبل أيام يعبّر عن تجاوز إسرائيل لتفاهمات نتنياهو- بوتين السابقة باتجاه التصويب على قوى نظام دمشق العسكرية أيضا، وليس تلك الإيرانية حصرا. قبل ساعات من هذا التطور العسكري كان نتنياهو قد حمَّلَ نظام بشار الأسد مسؤولية الصواريخ الإيرانية الهوى التي تطلق من سوريا باتجاه إسرائيل.

تمتلك إسرائيل أداة الردع المعروفة، لكنها من خلال قضية الخوذ البيضاء، ثم الكلام عن احتمال تحرك دروز الجولان حماية لدروز السويداء، تكشف عن أدوات جديدة كانت غائبة خلال المقتلة السورية.

شكت منابر الولايات المتحدة من جمهوريين وديمقراطيين ومؤسسات أمنية أنها لا تعرف ما دار في هلسنكي، مطالبة باستنطاق المترجمة التي صاحبت ترامب في مداولاته مع بوتين. بالمقابل يكشف الموقف الإسرائيلي المتصلّب هذه المرة ضد بوتين، ثم وزيره سيرجي لافروف وجنراله فاليري غيراسيموف، أن نتنياهو علم بفحوى المحادثات بما تطلب تبدلا دراماتيكيا في الموقف الإسرائيلي. ولن يكون مستبعداً أن يكون موقف تل أبيب مطلوبا في واشنطن كما في موسكو لإضافة جرعات من الضغوط ضد إيران تتكامل مع ما كان ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو قد رفعا في الأيام الأخيرة من منسوبها ضد طهران.

وفق هذا المشهد الجلي يستنتج رجب طيب أردوغان هامشية حضوره في التسوية السورية النهائية مقارنة بذلك الذي يتطور إسرائيليا. ولئن ما زالت “أستانة” التي ستنعقد في سوشي ميدانا نشيطا لمحورية دور تركيا ضمن الثلاثية مع روسيا وإيران، بيد أن تمدد الظلال الإسرائيلية بدا أنه يحظى بغطاء دولي شامل، لا يحظى به أردوغان وجيشه في شمال سوريا.

على ذلك يخرج وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو ليعلن بأن بلاده غير معنية بالعقوبات الأميركية ضد إيران، ذلك أن المزاج الذي يطالب بإجلاء إيران عن سوريا لن يتأخر في طلب جلاء تركيا عنها ولو بعد حين.

صحيفة العرب