العرب بين ترامب وبوتين / محمد قواص


اهتمت الندوة السياسية الرئيسة داخل فعاليات موسم أصيلة الـ 40 بالبحث في طبيعة “المأزق العربي” الراهن. حول هذه الورشة تناوب عدد من أولي الخبرة والفكر والصحافة والسياسة. بدا أن الجمع مختلف على تعريف ذلك المأزق والاهتداء إلى معالمه على الرغم من الطابع الاجتماعي الذي قد يخاله المستمع.

لا يبدو أن العرب اتفقوا على تشخيص واحد لتلك العلة التي فجرت منذ عام 2011 البراكين التي تخفي تحتها البراكين. بعضٌ ما زال يرى أن الإحباط والظلم والفساد وسّع الهوة بين الحكم والعامة فخرج العامة. وبعضٌ يرى أن الأمر مؤامرة خارجية رسمت وفُصلت لتطيح بالمنطقة عملاً بنظرية كونداليزا رايس الشهيرة حول الفوضى الخلاقة. وبعضٌ يجد في ما حصل يأساً لا خروج منه وآخرون يرونه نفقاً له بداية ولا شك أن له آخر كما كل نفق.

ورغم أن المتحدثين يأتون من مشارب وبلدان وجهات مختلفة، ورغم أن ميادين الانفجار متعددة متباينة في الجغرافيا كما في الأسباب والنتائج، فما زال يستسهلُ البعض اللجوء إلى التعريف العربي لمعضلة ثبت أنها تونسية ومغربية وليبية ومصرية وسورية ويمنية…إلخ. فأمر رفع المرض من مضمونه الحقيقي إلى مستويات أشمل صار من عدّة الشغل، بحيث يجري بسذاجة، أو بسبب الابتلاء بالايديولوجيا، إغراق الخاص بالعام، وحرمان بلدان المنطقة وشعوبها من الفخر بخصوصية تجعلها متميزة في التاريخ، مختلفة في الثقافة، بعيدة في همومها وهواجسها وطموحاتها عما يراد له أن يكون لـ “الأمة العربية”.

غير أن ما هو شكلي في تحري المعالجة على أساس أننا مختلفون داخل المنطقة العربية، يصبح لبَّ المشكلة ومتنها لا هامشها. يرتفع الصراخ حول الهوية التي لا يجوز أن تكون تونسية مصرية لبنانية.. بل يجب أن تكون دوما في “النص” و”الحديث” أمة واحدة في أوجاعها وآهاتها وخرائط خلاصها. فما زالت المنطقة في عرف بعض المساجلين “أقطارا” داخل جسم “الأمة” التي ما زال بعض آخر يرى أنها “ذات رسالة خالدة”.

وقد يستنتج المراقب أن ضجيج الندوات والمؤتمرات، وربما ضوضاء ما يصدر من كتب وأبحاث، يجري داخل فضاءات بعيدة عن قلب الحدث وغرف القرار.

يناقش المثقفون أمر “أمتهم”، فيما قرار حاضر المنطقة ومستقبلها يُقرر في غرف أخرى كثيرها خارج حدود عالمنا بعيداً عن حدود “الأمة” ومجالها الحيوي. والأخطر أن عجماً لا عربا هم من يشتغلون لضبط الكارثة السورية، فيما تنشغل باريس وواشنطن وروما وعواصم رديفة أخرى في بحث مآلات الصراع في ليبيا. ولا يغيب هذا النمط عن أي من ميادين الاشتعال والذي يجعل من دول كتركيا وإيران وإسرائيل منشغلة في إعادة تركيب العيش وأنظمة الحكم وقواعد الأمن والاقتصاد في منطقتنا.

بيد أن غرابة السجال أن آليات التعامل مع براكين المنطقة تجري وفق سبل متباينة متفاوتة متباعدة. أجرى المغرب إصلاحات دستورية أعادت تعريف علاقة العامة بالحكم. تعامل الأردن مع حراكاته بحكمة، وبعّدة محلية، أفصحت عن حكمة لدى الحاكم كما لدى القوى النقابية والسياسية والشعبية في تدوير الزوايا. راح المصريون باتجاه ما انتهوا إليه من رفع ثم إسقاط لجماعة الاسلام السياسي، فيما ينخرط التونسيون في تجربة يشوبها الهدوء النسبي رغم جسامة التغييرات الكبرى التي قلبت نمط الحكم في البلاد. وتبقى حالات سوريا وليبيا واليمن نافرة في أورامها بحيث أن لغة العسكر وعسكرة الحل تطغى على أي أنماط أخرى رغم الحركة الدبلوماسية، وعلى أعلى المستويات حولها.

ويجوز هنا الإشارة إلى أن المنطقة التي كانت تعاني من الاستبداد في نسخته القصوى كما تلك الدنيا، تعود هذه الأيام للحنين لهذا النمط السلطوي في العلاقة بين الحكم والعامة. تروج دعوات لعودة العسكر كترياق وحيد ويكاد يكون أبديا لحكم هذه “الأمة”. ومن الأحكام التي تزدهر هذه الأيام أننا شعوب نهوى الديكتاتورية ويروق لنا النوم على صدرها. في ذلك أن البلادة في اجتراح مخارج حضارية تلتقي مع نفخ خارجي يدعو للاستقرار بدل الديمقراطية وحقوق الإنسان، كون هذا الخارج الذي نظّر للفوضى الكبرى عاد يستدرج القوة والتسلط إذا ما كان ذلك يضمن الاستقرار ويجنب الخارج إرهابا ولاجئين ويضمن له استقرار مصالحه.

واللافت في تقاطع المساجلين وضوح حقيقة أننا لسنا أمة واحدة بالمعنى البيولوجي النفسي الذي أرادوه منظرو القومية أن يكون حقيقة مطلقة لا نقاش بها. تسهل ملاحظة أن خطاب الأجيال بات متعارضاً يشكو من انقسام. يبدو نقاش الهوية وأحوال الأمة والموقف الجمعي من قضايا الجماعة متقادماً غارقاً في أبجديات رتيبة مملة لا يفهمها جيل “الربيع” العربي.

ما زال النقاش يجري خارج دائرة الحدث. هناك شعور أن السجال يخاف العبور إلى داخل هذا الحدث وهو يستعيره فقط كمناسبة لإعادة اجترار ما انتهت صلاحيته. لم تخرج الجموع في تونس واليمن وليبيا ومصر وسوريا من أجل العروبة والوحدة والهوية وتحرير فلسطين. لا بل أن غياب فلسطين كان علامة جديدة، ليس على إهمال “الثائرين” لقضية عادلة ما زالوا يؤمنون بها، بل لاعتبارها من بضاعة هذا النظام العربي الذي ينتفضون عليه. وما زال نقاش اليوم يخلو من لغة الأرقام والإحصاءات وأدوات العصر في عالم ينخرط الجيل الشاب داخله مهملاً مفردات القول والعمل المعتمدة في لغة الجدل السائدة.

يجري التحوّل العربي هذه الأيام وفق دينامية غير مسبوقة في تاريخ العالم الحديث. كانت التطورات التي طرأت على أنظمة الحكم تجري على رقعة دولية ثابتة أو على الأقل مستقرة في تباينها. حصلت الاستقلالات في فترة حرب باردة واضحة المعالم مستقرة داخل خرائط الانقسام الأممي الكبير. جرى نسب تغير طبيعة نظم الحكم العربي إلى شرق وغرب دوليين على نحو أتاح رسم خرائط تقليدية داخل انقسام العالم بين شرق وغرب. بيد أن فوضى العالم العربي تجري هذه الأيام على مسرح فوضى دولية تتحرى بصعوبة استقرارا ما.

تطل الترامبية بصفتها ظاهرة لها جذورها وليست تفصيلا تقنيا مرتبطا بانتخابات رئاسية أميركية. تتصل الترامبية في زمانها بالبوتينية بصفتها ظاهرة أخرى تعيد دفع روسيا لاحتلال موقع متقدم ينقلب على الوضع الذي ورث انهيار الاتحاد السوفياتي. وتلتقي الظاهرتان في واشنطن وموسكو على مقت الاتحاد الأوروبي ومباركة أزماته والنفخ في أشرعة تفككه. وعلى وقع هزّات تعيد الوصل بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية والقطع بين واشنطن وطهران يناقش العرب أزمتهم وحاضرهم ومستقبلهم وهم حائرون في وجهاتهم بين ترامبية تكبر ككرة الثلج وبوتينية تترجل بقوة داخل عالمهم.

ينظر العرب بقلق لا بارتياح إلى قمة دونالد ترامب وفلاديمير بوتين في هلسنكي. ففي اتفاق الرجلين حسابات قد يدفعها العرب الذين أنسوا العداء بين موسكو وواشنطن ولا يفهمون كثيراً رموز الزواج الذي قد يجمع رياح رجلين قد يغيران وجه العالم إلى آخر مجهول.