إيران: العالم لا يريد إسقاط النظام!/محمد قواص

عواصم المنطقة تطمح إلى تغيير جذري في شخوص وفلسفة ومفاصل النظام يسحب فتائل من ملفات مشتعلة، فيما يسعى العالم للتأمل من بعيد لعل في تلك العاصفة ما يحمل نسمات ربيع حقيقي.


لا تفهم المنظومات الدولية الحديثة الانفجارات الاجتماعية العفوية الخارجة عن حسابات الغرف الكبرى. بدا واضحا حجم التلعثم الدولي في مقاربة اندلاع المظاهرات في تونس أواخر عام 2010، والتي تمددت وشاعت بعد ذلك في كامل المنطقة لتتحول إلى “ربيع” ملتبس مازال عصيا على الإدراك. ويبدو واضحا تمسّك العواصم الكبرى بإيقاعات رصينة في التعامل مع الحدث الإيراني. ففي ما عدا تغريدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فإن الدبلوماسيات الكبرى، بما فيها، للمفـارقة، تلك في واشنطن، تراقب الحدث الإيراني بتأن، وتسعى إلى عدم المغامرة في استشراف مآلاته وتتجنب الدفع به باتجاه احتمالات مجهولة.

والحقيقة أن دول المنطقة برمتها تنظر بعين محافظة عند تقييم التطورات في إيران. ولئن تعبّر تركيا عن تضامنها مع الجار الإيراني، فإن المجموعة الخليجية المفترض أن لها موقفا سلبيا من نظام طهران تتعامل مع “الربيع” الإيراني بنفس الريبة التي تعاملت بها مع “ربيع” العرب. وليس بالأمر أي غرابة في علم السياسة والعلاقات الخارجية، ذلك أن حوالي أربعة عقود من عمر الجمهورية الإسلامية في إيران خلقت وضعا إقليميا ودوليا يتأسس بنيانه على الحقيقة الإيرانية سواء ناصرتها دول أو خاصمتها دول أخرى.

ولا نكتشف جديدا إذا ما لاحظنا ضيقا داخل “تيار الممانعة” الإقليمي. فركائز تلك المنظومة سواء بجانبها الدولاتي الذي يمثّله النظام السوري، أو بجانبها الفصائلي الذي يمثّله حزب الله وحركتا حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين والفصائل الشيعية التابعة من أفغانستان إلى اليمن، لكن ذلك الضيق انسحب بشكل فجّ وسريع على الموقف التركي الذي رأى في الحدث الإيراني أعراضا تحمل في بذورها خلايا عدوى يسهل عبورها من حدود البلدين.

يجتمع النظامان الإيراني والتركي على قاعدة اتكائهما الأيديولوجي على الإسلام السياسي وعقائده. وينشط داخل العقل الباطني للنظامين حنين يستدعي عثمانية بالنسبة لتركيا وصفوية بالنسبة لإيران لجهة اعتبار التمدد باتجاه ما بعد حدود البلدين أصلا من صلب ركائز ديمومة نظام الولي الفقيه في طهران، كما نظام حزب العدالة والتنمية في أنقرة. كما أن عقلية الأمن الاستراتيجي لإيران وتركيا لا ترتبط بالمصالح التقليدية التي تشبه مصالح أي دولة في العالم، بل تتصل بأمن وأمان النظام السياسي نفسه، بحيث يتماهى أي اعتراض داخلي مع “مؤامرات” خارجية يحيكها أعداء البلاد. ولا غرابة في أن تعتبر أنقرة أن العدو “الوحيد” للنظام التركي، فتح الله غولن، يقبع في بنسلفانيا في الولايات المتحدة، فيما ترتاح منابر النظام في إيران إلى استنتاج أن “الهبّة” الراهنة هي من صناعة أميركية خالصة تؤكدها تغريدات الرئيس ترامب في هذا المضمار.

ويبرز الموقف الروسي، الشريك الثالث مع تركيا وإيران، في عملية أستانة بشأن سوريا، بصفته واجهة لحالة الارتباك التي تهدد كل المقاربة الروسية اللافتة في الشرق الأوسط. تطل موسكو، كما حال أنقرة، متضامنة مع طهران مصادقة على روايتها ومصدّقة لقراءتها للحدث. ولئن بدا لأي مراقب تباين على المدى الطويل في أجندات إيران وروسيا في المنطقة، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين امتطى حصانه في المنطقة معوّلا على حلف حقيقي مع إيران ظهرت فعاليته في تلك الشراكة الملتبسة داخل الميدان السوري.

صحيح أن روسيا الحالية هي مولود غير شرعي للثورة البلشفية لعام 1917، وصحيح أن بوتين نفسه ربيب مؤسسات الاتحاد السوفييتي التي أفرزتها تلك الثورة، إلا أن موسكو لم تحب يوما الثورات داخل فضائها، ولم تتردد في قمع أي حراك داخل بلدان أوروبية جالت في مساراتها، كما لم تحب، للمفارقة، أي ثورات في أي بلد لا تخضع إيقاعاته لحسابات الكرملين. ولئن كرهت روسيا “ربيع” العرب وجاهرت في مواجهته، فإن التطور الإيراني الطارئ لا يخرج عن عقائد رجل الكرملين ولا عن فلسفة السياسة الخارجية الروسية التقليدية والمستجدة في العقدين الأخيرين.

واللافت أن أوروبا التي روّجت لثورة روح الله الخميني ضد الشاه ومنحته منابر دولية أطل منها على العالم كما على الإيرانيين، لا تبدي أي حماس حيال ما يجري في إيران.

تجمع عواصم الاتحاد الأوروبي على “التعبير عن قلق” و“الدعوة إلى الحوار الداخلي” لاستيعاب الموقف وامتصاص ذلك الحراك الغامض. ولا تبدو الرصانة الأوروبية تنهل من الطابع الغامض لتلك التظاهرات فقط، بل إن العواصم الأوروبية لا تريد لذلك الغموض أن ينجلي وتريد بقاءه مبررا لهذا الحذر والتحفظ اللذين يشوبان موقف باريس ولندن وبرلين وغيرها.

فإذا ما أعلن الاتحاد الأوروبي معارضة موقف الرئيس الأميركي والعزم على التمسك بالاتفاق النووي، فإنه ليس من مصلحة أوروبا أن ينهار نظام صارت تعرفه وتُحسن التعامل معه، ولا يملك الاتحاد في عزّ أزمته الراهنة بسبب البريكست البريطاني أن ينخرط في التعامل مع فوضى وعبث قد تبثهما الأورام الإيرانية.

ولا يجب تغييب الجانب الاقتصادي عن موقف الأوروبيين إزاء طهران. فالدول الأوروبية تدافعت عقب التوقيع على الاتفاق النووي مع مجموعة 5+1 عام 2015 على أبواب طهران للحصول على عقود تنهل من السوق الإيراني الكبير. والثابت أن الموقف الأميركي المتحفّظ على أي انفتاح مفرط مع إيران، حتى في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، هو ما كبح قفز الأوروبيين نحو الشريك الإيراني الواعد. وبالتالي فإن التهدئة التي تمارسها أوروبا تروم الحفاظ على الأسواق الإيرانية وحماية مداخلها المستقبلية التي كان من المفترض أن يجسّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نبضها في زيارة قد تطيح بها رياح مشهد ومدن إيران الغاضبة.

تختلف حيثيات المواقف الدولية وحوافزها في إبعاد فرضية سقوط النظام الإيراني، بيد أن ويلات (الربيع) العربي في جانبيه المدمرين للحجر والبشر، بما في ذلك قذفه علل الهجرة والإرهاب إلى قلب العالم، توفر قاسما دوليا مشتركا لعدم صب الزيت فوق النيران الإيرانية
وللمفارقة أنه في 16 يناير من العام الماضي أعلن أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، أن طهران لا تسعى إلى إسقاط النظام في السعودية وذلك، وفق تحليله، لأن احتمالا كهذا “يؤدي إلى تقسيم السعودية وسيطرة الفكر المتطرف الداعشي المنحط على أجزاء مهمة من السعودية”. وللمفارقة أيضا أن المزاج السعودي الرسمي (كما الخليجي) الذي لطالما عبّر عن عداء شديد للنظام الإيراني وسلوكه، لا يبدو أنه سيكون مغتبطا لسقوط نظام طهران. صحيح أن الخطاب الرسمي لم يفصح عن طبيعة الرؤى السعودية حول الحدث الإيراني، إلا أن حناجر وأقلاما قريبة من كواليس القرار في الرياض جاهرت بالتعبير عن أن لا مصلحة سعودية أو خليجية بانهيار النظام في طهران.

تختلف حيثيات المواقف الدولية وحوافزها في إبعاد فرضية سقوط النظام الإيراني، بيد أن ويلات “الربيع” العربي في جانبيه المدمرين للحجر والبشر، بما في ذلك قذفه علل الهجرة والإرهاب إلى قلب العالم، توفّر قاسما دوليا مشتركا صلبا لعدم صبّ الزيت فوق النيران الإيرانية. فإذا ما توجّس الخليجيون من برنامج إيران النووي في جانبيه الأمني والبيئي المطلّ مباشرة على يومياتهم، فإن أي أزمة كبرى في إيران قد تتحول إلى كارثة زاحفة يكفي لها أن تعبر مياه الخليج.

ما يحدث في إيران هو جدل إيراني داخلي بيتي يحاسب نظاما حكم البلاد منذ عام 1979. الإيرانيون يهزون بقوة أعمدة هذا النظام ويَصْبُونَ إلى إصلاح يحسّن عيشهم. عواصم المنطقة تطمح إلى تغيير جذري في شخوص وفلسفة ومفاصل النظام يسحب فتائل من ملفات مشتعلة، فيما يسعى العالم للتأمل من بعيد لعل في تلك العاصفة ما يحمل نسمات ربيع حقيقي. يبقى أن حسابات ماكيافيلي العقلانية العتيقة لم تتوافق يوما مع إرادة التاريخ.

نقلا عن العرب