لماذا خصّ عبد الناصر سيد قطب بهبة استثنائية!؟ /علي العميم


يبدي – يا دلال – الدارس الماركسي شريف يونس في رسالته الجامعية عن سيد قطب، اسمها «سيد قطب والآيديولوجية الأصولية»، استغرابه من إصدار سيد قطب، وهو سجين، الكتب التالية: «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته»، «الإسلام ومشكلات الحضارة»، «هذا الدين»، «معالم في الطريق»، وتنقيحه لكتابيه: «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، و«السلام العالمي والإسلام»، وثلاثة أجزاء إضافية (11 – 13) من تفسيره: «في ظلال القرآن». يبدي استغرابه من أن هذه الكتابات قد نُشِرت جميعاً في مصر في ظل النظام الناصري، وهو الأمر الذين لم يجد له (كما قال) تفسيراً مرجحاً. ويلقي بظلال من الشك حول السبب الأصلي الذي ذكرناه لك في الأسبوع الماضي؛ فهو، في نظره، ليس سبباً «كافياً أو مبرراً، سواء في عهد الاتحاد القومي أو الاشتراكي. كما أنه لا يفسر، لو أخذنا به، السماح بنشر كتب سيد قطب الأخرى. وقيل أيضاً إن عبد الناصر قد اضطر لذلك، لأنه أوهم قادة الدول الإسلامية أن سيد قطب حرّ يمارس الكتابة بشكل عادي، وهو تفسير أغرب بالنظر إلى وجود سفارات لهذه الدول يمكنها معرفة الحقيقة. ولا أملك تحت يدي تفسيراً مؤيداً بالدليل، ولكن أقترح أن تكون قد جرت مساومة ما، قد تكون ضمنية، جرى بموجبها السماح لسيد قطب بالنشر، مقابل تعهُّد ضمني بعدم تهريب مقالات وأشعار – من قبيل القصيدتين اللتين سبق ذكرهما (يقصد بالقصيدتين، قصيدتيه: «أخي»، و«هبل… هبل») – تهاجم النظام بشكل مباشر، وأقرب ما يؤيد هذا التصرف رفض سيد قطب وهو سجين كتابة مقالات لمجلة سعيد رمضان «المسلمون»، التي كانت تصدر في الخارج، وذلك استناداً – كما طلب سعيد رمضان منه -إلى أنه مسموح له بتأليف الكتب ونشرها في مصر.
يجمل بي – يا دلال – قبل الرد على ما قاله هذا الدارس، أن أصوِّب له ما جاء في كلامه عن كتب سيد قطب التي ألّفها، وهو في السجن، لكيلا يتكرر عندك التخليط في الحديث عن أخريات المسألة القطبية، مرة أخرى.
كتابه «معالم في الطريق» صدر قبل العفو عنه ببضعة أشهر. وقد أعاد كتابة الأجزاء الأولى من تفسيره، ونقَّح الأجزاء الأخيرة منه قبل سنوات من العفو عنه. فالطبعة المزيدة والمنقحة من تفسيره صدرت سنة 1961. أما تنقيحه لكتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، فلقد بدأه قبل سجنه ضمن الاعتقالات الأولى للإخوان المسلمين في 13 يناير (كانون الثاني) 1954، وقبل سجنه الثاني في 26 أكتوبر (تشرين الأول) من ذلك العام في حادثة المنشية، واستمرّ فيه بعد سجنه مع الطبعتين الرابعة والخامسة. والتنقيح الأخير كان في الطبعة السادسة التي صدرت عام 1964، وهي النسخة المتداوَلَة بين أيدينا. ولا تتوفر بيّنة ولا قرينة على أنه نقَّحَها تنقيحه الأخير في الفترة التي أُفرِج فيه عنه ما بين 26 مايو (أيار) سنة 1964، واعتقاله مرة أخرى في 29 أغسطس (آب) سنة 1965. أما كتابه «السلام العالمي والإسلام»، الذي صدر في أخريات سنة 1951، عن دار «الكتاب العربي»، فأصارحك بأنه لم يسبق لي أن أجريتُ مقارنات بين طبعته الأولى وطبعاته التالية في مكتبة وهبة، لأعرف ما أثبت فيها وما حذف منها، وما أضاف إليها، وما أعاد صياغته من جمل وفقرات فيها. وما أعرفه هو أنه طبع أكثر من طبعة من ذلك الكتاب في أثناء سجنه الثاني. وأنه صدرت طبعته الخامسة سنة 1966 في أثناء سجنه الثالث، ولا أعرف إن كانت هذه الطبعة صدرت قبل إعدامه أم بعيده. وأعرف أنه صدرت طبعة تالية لها سنة 1967. هاتان المعلومتان الأخيرتان تقودنا إلى التشكيك فيما كان يقوله الحاج الإخواني وهبة حسن وهبة صاحب مكتبة وهبة، من أنه في أغسطس سنة 1965، تمت مصادرة مكتبته، ووُضِعَت تحت الحراسة بقرار جمهوري. فمكتبته في ظل تينك المعلومتين، تفشي أنه كان مسموحاً لها بمزاولة نشاطها بيعاً ونشراً، رغم أنه كان معتقلاً ضمن قضية «تنظيم 65» منذ 4 أغسطس من تلك السنة المذكورة.
مع تقديري لعلم الدارس والأستاذ الجامعي شريف يونس واستقصائه في البحث وصرامته المنهجية وتثميني الكبير لدراسته الممتازة عن سيد قطب المشار إلى اسمها أعلاه، فإن شكه في السبب الأصلي (وهو سبب قانوني) الذي سمح لسيد قطب بمواصلة العمل على تفسيره للقرآن، فيه ضرب من التكلف غير الموفق الذي جعل شكه شكاً عبثياً، لأنه كان شكاً لمجرد الشك! أي أنه شك انبعث عنده من دون سبب وجيه ولا مبرر كافٍ ولا مسوِّغ مقنع.
وقّعَت دار إحياء الكتب العربية عقداً مع سيد قطب سنة 1952، ينص على أن يقوم بتفسير كل سور القرآن، وأن يصدر كل جزء مع مطلع كل شهرين، وتسلم سيد قطب مبلغاً قدره عشرة آلاف جنيه من الدار مقدماً، وكان قبلها نشر في مجلة «المسلمون» في تلك السنة سلسلة من المقالات تحت عنوان «في ظلال القرآن»، تناول فيها سورة الفاتحة ومقدمة سورة البقرة. وقبل سَجنه الأول في 13 فبراير (شباط) سنة 1954، الذي مكث فيه في السجن شهرين وأربعة عشر يوماً، كان قد أنجز ستة عشر جزءاً من عمله الكبير هذا (استسقيتُ هذه المعلومات بتصرُّف من كتاب عبد الله الخباص: «سيد قطب… الأديب الناقد». والمؤلف نقلها من رسالة صلاح دحبور – أو صلاح عبد الفتاح الخالدي، كما تسمى بذلك بعد نيله شهادة الماجستير – للماجستير: «سيد قطب والتصوير الفني للقرآن»).
وفي السجن، كما تقضي بذلك قوانين السجن وأعرافه في كثير من بلدان العالم، يُمنع السجين من الكتابة. دار النشر المذكورة رفعت قضية على الحكومة المصرية تطالبها إما بالسماح لسيد قطب بمواصلة عمله، وإما أن تعوضها مالياً عما دفعته لسيد قطب من نقود، وهو مبلغ كبير في ذلك الزمن. وقد كسبت الدار القضية. الحكومة اختارت الحل الأول الذي لن يحملها مصاريف مالية لا موجب لها.
هذه الرواية التي يعلم شريف يونس أن أصلها عند الباحثين إفادة أخذها بعضهم من محمد قطب، لا مبرر للشك فيها، للأسباب التالية: القضاء في مصر يتميز عن القضاء في بلدان كثيرة من بلدان المنطقة، سواء أكانت عربية أم غير عربية، بأنه مستقل عن الحكومة إلى حد معقول. الدولة المصرية في تلك الفترة لم تغدُ دولة بوليسية بعد، وعبد الناصر لم يصبح ديكتاتوراً بعد. موضوع الكتاب موضوع ديني تقليدي أو كلاسيكي جليل، ليس فيه حساسية من أي نوع كان، ولا تترتب عليه ظاهرياً نتائج يمكن أن تزعج السلطة. وقد اختار عبد الناصر الشيخ محمد الغزالي، ليكون رقيباً على الكتاب، لسبب أومأنا إليه في حديثنا السالف، ولأنه أزهري، وسيدقق فيما يكتبه سيد قطب بعين أزهرية فاحصة، لا يفوتها ما يعدُّه مشايخ الأزهر شطحاً أو شذوذاً في تفسير القرآن. وبهذا يأمن إثارة اعتراضاتهم واحتجاجاتهم.
عزيزتي دلال البزري…
أستصحبك في هذه المجادلة ليس لصلة موضوع هذه المجادلة بما أنا مستغرق في نقدك فيه وحسب، بل ثمة سبب آخر، وهو أني رأيتكِ في مقالك، الذي هو موضوع نقدي لك، تقيمين مرافعةً في غير موضعها الصحيح، وتتسللين إلى المشكلة الأصولية من خلال مسالك نائية وملتوية، لا تؤدي إلى النفاذ إلى عمقها ولا الإمساك بتلابيبها. وهذا ما سيأتي بيانه في حينه.
لتأذني لي – يا سيدتي – باستكمال مناقشة ما قاله شريف يونس.
كان يجب على شريف يونس أن يصوغ القضية التي طرحها عبر السؤال الآتي: الإذن الرسمي الذي يسمح لسيد قطب بالتأليف في السجن، كان يقتصر على كتابه «في ظلال القرآن»، فلماذا سمح له النظام الناصري بتأليف كتب جديدة؟!
هنا كان يجب عليه أن يبدي استغرابه وتعجبه. وهنا كان يجب عليه أن يتدسس بسؤال ارتيابي شكّي عما وراء ذلك القرار المستجد، الغريب والعجيب، الذي كان بمثابة منحة وهِبَة (جمهورية) استثنائية، خصّه عبد الناصر بها!!
إنك كما ترين في القضية التي طرحها شريف، أنه دمج بين أمرين ووحد بينهما، واعتبرهما كلاًّ غير منفصل، وهذا عمل غير صالح منطقاً ولا منهجاً، لأن الأمر الأول سببه واضح ومفهوم، أما الأمر الآخر فهو بخلاف ذلك، فسببه مبهم وغامض.

نقلاعن العربیه