«الداخلية» من دون «أمن الدولة»/ فهد الدغيثر


لدى وزارة الداخلية في السعودية، وبعد أن تم فصل مهمات أمن الدولة عن مهامها، وقد أبلت بلاء حسناً في الحفاظ على أمن الوطن والمواطن، فرصة هائلة اليوم لتعيد النظر في إعادة هيكلة وتأهيل جهازي الشرطة والمرور. كنا نتردد كثيراً في انتقاد هذين الجهازين على رغم وجود القليل منه، كون الوزارة تباشر العدو الأشرس المتمثل بالتنظيمات الإرهابية. على رغم ذلك كنت ربما من أكثر من تناول هذا الموضوع إلى الحد الذي طلب مني أحد الأصدقاء قبل عام التقليل من الكتابة عن المرور والشرطة حتى لا يصاب القراء بالملل. وقد استجبت له، لكنني مجبر على العودة إلى ذلك، خصوصاً ونحن اليوم نقوم بدراسة وتهيئة البيئة لدخول النساء عالم قيادة السيارات في المملكة قريباً جداً. الفوضى في استخدام الطريق مستمرة، والقيادة برعونة تزيد ولا تنقص مع الأسف. يكفي مشاهدة المنطقة الفاصلة بين مبنى سابك ومخرج جامعة الأميرة نورة كل صباح، حيث الفوضى على رغم وجود الأفراد من المرور والشرطة، وهو ما يثير العجب وخيبة الأمل.

في رأيي ومع كامل التقدير للجهود المبذولة، إلا أن عيب المرور والشرطة وقصور الأداء بشكل عام يكمن في مستوى تأهيل الأفراد، وعدم توضيح قواعد الاشتباك مع المخالفين. هذا في الحقيقة هو صلب الموضوع لأن غياب التأهيل وعدم وجود قواعد معروفة للاشتباك يدفع إلى غياب الهيبة المنشودة، المقصود بعبارة قواعد الاشتباك هي تفاصيل الإجراءات عند طلب توقيف سيارة مخالفة. تقول إحدى الدراسات التي اطلعت عليها في الولايات المتحدة قبل عقدين من الزمان إن السبب الرئيس في تفادي السائقين هناك لارتكاب المخالفات هو شعورهم بأن الضابط (البوليس) لن يغفر لهم أو يسامحهم. الأمر الآخر والأهم أنه لا يمكن للمخالف هناك أن يستهتر بطلب البوليس له بالتوقف، كونه يدرك أن البوليس وقبل البدء بطلبه يكون قد دون كل المعلومات المهمة عن السيارة المطلوب إيقافها، وتوافرت هذه المعلومات آلياً في المركز، وبالطبع عند عدم الامتثال فإن السائق يرتكب مخالفة أعظم من المخالفة الأولى. هل لدينا في المملكة وعي بمثل هذه القواعد من قواعد الاشتباك؟ حتى لو وجدت فالناس لا يعرفون عنها شيئاً، ولذلك نلاحظ أحياناً هرب السائق من المشهد ومحاولة الاختفاء داخل الأحياء.

في أمور السرقة وما يتعلق بجهاز الشرطة ما زالت القصص الحزينة تروى، منها على سبيل المثال طبيعة تجاوب الدورية بعد التبليغ عن الحادثة وبطء ردود الفعل، ومنها غياب الاحترافية في مباشرة الحادثة وجمع الأدلة، منها عدم الاهتمام بالحالة عند حدوث سرقة صغيرة من معرض تجاري على سبيل المثال. لا يمكنني أن أنسى عبارة قالها لي أحد أفراد الأمن عندما أحضرنا له زبوناً سرق ماكينة موس حلاقة من الرف، وكان سعرها آنذاك ٤٥ ريالاً، بعد أن وقعه على ورقة تعهد وأطلق سراحه على الفور، قلت له ماذا تفعل؟ قال هل تريدني أن أوقف شخصاً لسرقته موس حلاقة؟ قلت طبعاً توقفه، ثم سألت الضابط هل سيتم تسجيل الحادثة في سجله المدني؟ قال لا طبعاً. هنا مشكلة كبيرة أخرى لا نتصور أضرارها على المجتمع، لو يعلم السارق بأن الحادثة ستبقى في سجله المدني حتى يموت لتردد كثيراً في الإقدام عليها، تخيلوا شخصاً يجلس أمام مسؤول الموارد البشرية في مقابلة شخصية للالتحاق بوظيفة، ويطلع هذا المسؤول على هذه الحوادث والواقعات. هل سيتم توظيف المتقدم؟ هل سيقبل والد العروس بتزويج ابنته لهذا الشاب؟ حتماً لا، وهنا نكون قد وضعنا المحفز الأكبر لتجنب ارتكاب مثل هذه الجرائم.

ما يقال عن السارق يمكن أن يقال عن المعاكس أو المتحرش، وقد يظهر الكثير من هؤلاء بعد انضمام المرأة كسائقة سيارة بمفردها إلى الرجل في زحام الشوارع، وعند التوقف في التقاطعات. أعرف أن تقنين عقوبات التحرش ليس من صميم عمل وزارة الداخلية، وهو مطلب مهم وملح، لكن رجال الأمن في النهاية هم من سيباشر أي بلاغ عن ذلك من المتضررين.

دعونا نتصور أن شركة كيان أتت بأفراد وقررت منحهم التدريب الأولي فقط، ثم وضعتهم داخل مصانعها، هل سنرى إنتاجاً منضبطاً ينافس الغير؟ تماماً هي الحال في تصوري وإن بنسب متفاوتة عن تأهيل الأفراد في هذين الجهازين، أنا هنا لا أعمم، إذ يوجد من هم مؤهلون في الشرطة وفي المرور، لكنهم كما يبدو قلة قليلة وقد يوجدون فقط في مناصب إدارية وليست ميدانية. كما لا يمكنني الجزم بأن هؤلاء وحتى مع التقصير وانحدار مستويات التأهيل يتساوون مع شرطي المرور في القاهرة على سبيل المثال. هناك في مصر انعدام شبه تام لهيبة الميدانيين، الذين يقفون عند التقاطعات وحالهم يرثى لها مع الأسف، لكننا لسنا في صدد المقارنة الآن، بل التطلع لنرتقي للمقارنة مع الولايات المتحدة، وحتى مع شرطة البحرين ودبي المتفوقين على معظم المدن العربية.

من هنا ومع كل التقدير لجهود الوزارة المتفوقة الأخرى، مثل بناء وإدارة أكبر مركز وطني للمعلومات، وتسهيل إجراءات الحصول على الهوية الوطنية والإقامة والجوازات، فالأمل أن نضع للشرطة والمرور خطة جديدة متكاملة تعتمد في أركانها على كل التفاصيل المعمول بها في أية ولاية أميركية أو كندية. ومع صدور القرار التاريخي العظيم الذي سمح للمرأة بقيادة السيارة، يصبح هذا الاقتراح أو غيره أكثر إلحاحاً. علينا ابتعاث مئات الأفراد إلى هناك، وطلب التعاون مع تلك الأجهزة بتدريب شبابنا المبتعثين عملياً، وذلك بمرافقة الضابط الأميركي أو الكندي في جولاته وضبطه للحوادث، لكن قبل ذلك علينا الاهتمام بالمدن والأحياء في المملكة، وتخطيطها بحسب متطلبات الأمن بدءاً من الشوارع والأرصفة والإرشادات وانتهاءً بوضع الكاميرات الأمنية في كل مكان. لا يوجد لدي أدنى شك بأن مثل هذا الاستثمار سيعود على الدولة والمجتمع بالفوائد العظيمة مالياً وصحياً ونفسياً أيضاً.

لعلي في خاتمة هذه المقالة أذكر مرة أخرى، وقد سبق أن طرحت هذه الفكرة من قبل، بالحاجة إلى تقسيم المدن الكبيرة إلى دوائر عدة مستقلة وخلق روح المنافسة بين هذه الدوائر وتحفيز المتفوقين ومعالجة المقصرين، لا يمكن لجهاز إداري واحد إعادة هيكلة أو تطوير السيطرة على مدينة بحجم الرياض على سبيل المثال، كونها اتسعت كثيراً وعلاجها تحت إدارة واحدة قد يبدو مستحيلاً. تقسيم المدن يعني المزيد من المرونة في العمل وإلغاء التقاطعات البيروقراطية، وبالتالي سهولة السيطرة على المناطق الجديدة الأصغر حجماً ومتابعة ما يحدث من تطور أو فشل. التخطيط والتطوير، الذي نسمع عنه من وقت لآخر خصوصاً في جهاز المرور لن يجدي نفعاً برأيي، لأن ذلك يشبه بناء عشرات الأدوار الجديدة الأنيقة فوق عمارة قديمة مؤسسة على قواعد وأعمدة هشة ومتآكلة نهايتها قد لا تبعث على الثقة والسلامة والطمأنينة.

نقلاعن العربیه