الانتخابات التشريعية في فرنسا: تسونامي ماكرون!/محمد قواص

بات حزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الوسطي قاب قوسين من الفوز بغالبية ساحقة في الجمعية الوطنية بعدما أسقط الحزبين التقليديين الأكبرين واليمين المتطرف في الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية التي جرت الأحد وشهدت نسبة قياسية من الامتناع عن التصويت. وبحسب معاهد استطلاعات الرأي فإن حزب الجمهورية إلى الأمام سيتوج هذا الفوز بعد الدورة الثانية من الانتخابات الأحد المقبل، وسط توقعات بأن يحصل على 400 إلى 445 مقعدا في الجمعية الوطنية من أصل 577 مقعدا.


“الإمبراطور” ماكرون

بدا أن الدورة الأولى للانتخابات التشريعية في فرنسا التي جرت الأحد، حملت إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أكثر مما كان يتوقعه وأعلى مما كان يحتاجه. منح الفرنسيون رئيسهم الجديد أغلبية ساحقة أثارت منذ إغلاق صناديق الاقتراع جدلا واسعا حول الزلزال الذي أطاح بالمشهد الحزبي التقليدي الفرنسي برمته.

ولئن شكّل فوز ماكرون في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في مايو الماضي ظاهرة لافتة لم تستفق من وقعها أحزاب فرنسا الكبرى حتى الآن، فإن انتخابات الأحد عكست مزاجا فرنسيا غاضبا من كل الطبقة السياسية التي تداولت السلطة منذ عام 1958، أي منذ انبثاق الجمهورية الخامسة، واستسلاما كاملا، ومقلقا للحزب الذي “ارتجله” ماكرون قبل عام.

“الجمهورية إلى الأمام”، حزب الرئيس، اجتاح الجمعية الوطنية في النسخة الأولى من الانتخابات بنسبة تجاوزت الـ32 بالمئة، حسب التقديرات غير الرسمية.

يحتاج ماكرون إلى أغلبية برلمانية مقدارها 289 مقعدا، لكن النسبة التي حققها حزبه تستشرف أن يحصل بعد انتخابات الدورة الثانية الأحد المقبل على ما يتراوح ما بين 400 و440 مقعدا من 577 مقعدا داخل البرلمان، بما يشكل “تسونامي” أزاح حصصا تقليدية كبرى وأطاح برؤوس كبرى لدى أحزاب اليمين كما اليسار.

تراجع حزب “الجمهوريون” الديغولي إلى نسبة 21 بالمئة، لكن الكارثة الكبرى حلّت بالحزب الاشتراكي الذي حصل على حوالي 9 بالمئة فقط، بما في ذلك إخفاق مرشح الحزب للرئاسة، بنوا آمون، في الفوز بمقعد نيابي في دائرته الانتخابية، فيما شملت الهزيمة 15 وزيرا من وزراء حكومات الرئيس الاشتراكي السابق فرانسوا هولاند. بدت سحنات قادة هذه الأحزاب مشدوهة تسعى بارتباك لتبرير ذلك الانهيار وتجهد في التحذير من مغبة أن يسيطر اسم واحد على موقعي الرئاسة والبرلمان. لسان حال ضحايا “الماكرونية” يقول إن هذا الرئيس حصل في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية على نسبة 24 بالمئة فقط، فيما صوّت الفرنسيون له رئيسا لبلادهم دفعا لبلاء اليمين المتطرّف، الذي مثلته مارين لوبان. وعليه فمن الخطأ، إذا لم يكن من الخطيئة، منح هذا الرئيس أغلبية مفرطة تجمع بين يديه سلطات لا تتسق مع تعددية النظام الديمقراطي. لكن كثيرا من كلام الحق هذا يراد به باطل يبرر الخيبة ويفسر الهزيمة.

انتخابات فرنسا تأتي لتتكامل مع انتخابات في بريطانيا. أرسل الحدثان رسائل حازمة توقف المد الشعبوي المقلق

“لقد عادت فرنسا”، هكذا استنتج رئيس الوزراء الفرنسي إدوار فيليب نتائج الانتخابات.

انسجم ناخبو ماكرون مع أنفسهم حين أعادوا منح حزبه الثقة التي منحوه إياها حين حملوه رئيسا للجمهورية في 7 مايو الماضي، بيد أن ناخبي مارين لوبان، زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، لم يكملوا مشوارهم التشريعي معها، وعزفوا عن محضها وحزبها بمساحة برلمانية تتناسب مع ما حققته في الانتخابات الرئاسية.

نالت مارين لوبان في الانتخابات الرئاسية حوالي 11 مليون صوت، بما نسبته حوالي 34 بالمئة من الأصوات، فيما نال حزبها نسبة 14 بالمئة، بما يستشرف حصول “الجبهة الوطنية” بعد انتخابات الأحد المقبل على ما بين 1 و4 مقاعد فقط.

هزمت الانتخابات التشريعية الفرنسية في نسختها الأولى الجميع. وحده ماكرون هو الرابح الكبير. تعيش فرنسا منذ انتخاب الرجل ظاهرة يطلق عليها بالفرنسية اسم “ماكرون مانيا”، أي الهوس بماكرون. والأمر جديد لا يشبه التقاليد السياسية للجمهورية الخامسة.

يستند النظام السياسي الرئاسي الفرنسي على توزيع للسلطات يتيح للبرلمان لعب دور المعدّل لسلطة الرئيس، بيد أن ماكرون، ومنذ أن كان مرشحا، ما برح يردد أن النظام السياسي الفرنسي هو نظام رئاسي، وأن دور البرلمان هو أن يكون مواكبا ورافدا للرئيس. فببساطة واضحة يعيد مفهوم ماكرون الاعتبار للروحية الحقيقية للدستور الذي وضعه الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول وشيّد على أساسه الجمهورية الخامسة التي تنظم أصول الحكم في فرنسا حتى هذه الأيام.

ولا يتوقف انتصار إيمانويل ماكرون عند انتصار حزبه فقط، بل إن الأمر أكثر تعقيدا على النحو الذي يمنح الرجل ظلالا تفوق ما حققه حزب “الجمهورية إلى الأمام” الأحد. فمرشحون ينتمون لليسار كما لليمين يعتبرون أنفسهم جزءا من “الأغلبية الرئاسية” حتى لو لم يحمل ترشحهم اسم حزب ماكرون، بما يعني أن نوابا اشتراكيين وديغوليين يعتبرون أنفسهم داعمين للرئيس الجديد في خياراته داخل أحزابهم. يكفي التذكير بأن رئيس حكومة ماكرون، إدوار فيليب ديغولي ووزير خارجيته جان إيف لو دريون اشتراكي، ولائحة هذه “الماكرونية” تطول.

أيا تكن النسب والتوقعات والترجيحات، فإن الثابت أن المشهد الحزبي الفرنسي بات متقادما، بما ينذر باختفاء أحزاب عريقة لطالما احتلت الميدان البرلماني لعقود. ففي فرنسا من يسأل حول لزومية بقاء الحزب الاشتراكي الذي لم يعد ينتج رئيسا ولا نوابا في الجمعية الوطنية. ثم إن هناك من يروح أكثر في سؤاله: ماذا تعني الاشتراكية اسما ومعنى وأيديولوجية هذه الأيام. على أن اللافت أيضا أن نصف الناخبين الفرنسيين لم يشاركوا في هذه الانتخابات.

وصلت نسبة الغائبين عن التصويت إلى حوالي 51.2 بالمئة من مجموع الكتلة الانتخابية بما مثل نسبة امتناع تاريخية عن التصويت. يمثل هذا العزوف حردا من كل الطبقة السياسية، بما في ذلك ماكرون وحزبه. ذلك يعني أن الزلزال الذي سجله حزب الرئيس يجلس على قاعدة تصويت ضعيفة، تعكس تبرما من السياسة وقلة ثقة بلزومية الاقتراع.

الانتخابات تكشف عن نمط آخر في خيارات الناخبين يهمل ما عرفته فرنسا على مدى العقود الغابرة من تشكلات سياسية في يمينها الأقصى كما في يسارها الأقصى مرورا بأحزاب اليمين واليسار والوسط.

ينهار اليسار الاشتراكي ويسجل اليسار المتطرف بقيادة جان لوك ميلينشان نسبة 11 بالمئة فقط، فيما سجل الرجل نسبة 20 بالمئة تقريبا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.

تكشف الانتخابات عن نمط آخر في خيارات الناخبين يهمل ما عرفته فرنسا على مدى العقود الغابرة من تشكلات سياسية في يمينها الأقصى كما في يسارها الأقصى مرورا بأحزاب اليمين واليسار والوسط. بيد أن خيار الناخبين يصب لمصلحة ما لا يعرفونه قبلا. تماما كما صبوا أصواتهم في الانتخابات الرئاسية لمصلحة مرشح تعرفوا عليه قبل عام فقط. على أن نتائج انتخابات الأحد وتوقع نتائجها الأحد المقبل يجرد الرئيس الفرنسي الجديد من أي عذر للفشل. بات ايمانويل ماكرون يمتلك موقعا سلطويا يتيحه دستور البلاد، كما يحظى بأغلبية ساحقة، ظاهرة ومضمرة، تبيح له تمرير قوانينه ومشاريعه وإصلاحاته دون أي اعتراض. في ذلك مسؤولية كبرى ترفعه إلى مرتبة “أمبراطور” في بلد فسيفسائي معقّد.

لكن انتخابات الأحد التشريعية في فرنسا تأتي لتتكامل مع انتخابات الخميس التشريعية في بريطانيا. أرسل الحدثان رسائل حازمة توقف المد الشعبوي المقلق الذي صدحت به صناديق الاستفتاء على البريكست البريطاني قبل عام كما أكده انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة.

يعيد الحدثان الاعتبار للمشروع الأوروبي الجامع. بنى ماكرون عقائده على ازدهار الاتحاد الأوروبي ومحورية وجوده، فيما أطاح الناخبون البريطانيون بعدائية زعيمة المحافظين، رئيسة الحكومة تيريزا ماي ضد “أوروبا”.

فاجأت الانتخابات البريطانية دونالد ترامب في واشنطن، ولا شك أن تلك في فرنسا، كما تلك المقبلة في سبتمبر في ألمانيا، تضع حدودا للترامبية التي خُيّل للبعض بأنها قانون الـغرب ودستوره النهائي الجديد.