فتح بعد المؤتمر: فلسطين في تحولات الغد!/محمد قواص

المؤتمر السابع الذي تم تقديمه بصفته إنجازا ثمينا داخل مفارقة طقوس من الأهازيج المتغنية بأناشيد الثورة القديمة، يخفي وجعا فتحاويا داخليا، ويكشف عن اندثار مرحلة بأدبياتها وشخوصها وبروز وجوه دون أدبيات جديدة.

تمّ للرئيس محمود عباس ما أراد من عقد المؤتمر السابع لحركة فتح. لا شيء مفاجئ في أعمال ذلك المؤتمر على مدى خمسة أيام. انشغل المؤتمرون بالتصديق على ما أُريد له أن يكون، بما يتّسق مع ما يرسمه رئيس السلطة الفلسطينية لتجديد شرعيته على رأس الفصيل الفلسطيني الأول وللخروج ببنيان فتحاوي طيّع يتناسب مع استحقاقات مطلوبة قادمة. أغلق الرئيس ملف حركته، وهو بصدد الإعداد لدعوة المجلس الوطني الفلسطيني ليعيد تجديد شرعية جديدة داخل منظمة التحرير الفلسطينية.

ليس في الأمر غرابة. فكل نظام سياسي يعمل على تدجين أدواته وتحجيم معارضيه، طالما أن الظرف الداخلي والخارجي يتيح ذلك. وكان واضحاً أن “أبومازن” يمتلك كل الأوراق التي تسمح له بالفك وإعادة التركيب دون أي مقاومة تذكر. بدا أن وريث “أبوعمار” على رأس النظام السياسي الفلسطيني تجاوز قدرات الزعيم الراحل على ضبط فتح والإمساك بمفاتيحها. فيذكر من حضر مؤتمرات الحركة في عهد ياسر عرفات كم عانى الرجل من حملات تنال من شخصه، وكم تصدى له رجالات الحركة السابقون. لا شيء من هذا في مؤتمر فتح الأخير، فقط ابتسم وأشكر ربك أنك داخل المؤتمر.

4206

لا يمكن اتهام المؤتمر السابع بأنه حوّل فتح إلى حزب السلطة. أصبحت فتح حزبا لسلطة عرفات منذ اللحظات الأولى التي “بصمت” فيها على اتفاقات أوسلو. لم تكن قناة أوسلو قرارا فتحاويا تباركه مؤسسات الحركة، بل أتى وقع الصفقة عليها مفاجئا كما على العالم أجمع. وما فعلته الحركة بعد ذلك هو اللحاق بالمنجز بصفته نصرا، فيما الجذر الثوري داخلها اكتفى بالاقتناع بأن “غزة – أريحا أولا” سيكون جسرا ربما نحو “يافا – حيفا آخرا”. لكن للأمانة أيضا، يجب الإقرار بأن حزب فتح في عهد عرفات كان أداة للكيفية التي كان الزعيم الفلسطيني الراحل يريد بها تطوير “أوسلو” وفرض تحديثات أخرى، فكانت انتفاضة الأقصى وكتائب الأقصى والمواجهة المباشرة الميدانية مع المحتل، في حين أن حزب فتح في عهد عباس هو أداة للحفاظ على أي منجز، حتى دون سقف أوسلو، وطبعا دون أي تحديثات حالمة.

لا يأتي الرئيس الفلسطيني بجديد على الفتحاويين المؤتمرين. فهو ليس من دعاة الكفاح المسلح وهو معارض للمقاومة “العبثية”، وإذا ما أبعد المؤتمر بعض الأسماء والكتل من خارج تيار محمد دحلان، فلكي لا تتشوه أجواء المؤتمر بالحالمين النوستالجيين الذين قد ينهلون من مخزون ثوري بات عتيقا متقادما. على الأقل يعرف كل من حضر المؤتمر أنه في رام الله لأن المحتل سمح بذلك، وبالتالي فإن من حضر المؤتمر جاء للمصادقة على موقع فتح داخل هذه المعادلة عام 2016. وفي تلك المعادلة لم يعد مسموحا للفتحاوي أن يسرّب غضبا قد يتسرّب منه ميل نحو عسكرة. ألم يقال إن إسرائيل رفضت دخول منير المقدح لأنه ما زال يلبس ثيابا عسكرية.

لا يمكن فصل المؤتمر السابع في المقاطعة في رام الله عن ذلك السادس الذي عقد عام 2009 في بيت لحم. الفرق أن محمد دحلان كان من عرابي السابق وهو من ضحايا الأخير. لا خلاف سياسيا أو أيديولوجيا بين “أبو فادي” وفتح، فإذا ما كان ضمن رؤية عرفات لإدارة ما بعد أوسلو واختلف مع الزعيم الراحل، فهو كان ضمن رؤية عباس لإدارة ما بعد عرفات واختلف معه. لكن في الخلاف مع عباس جانب شخصي له علاقة بالدور والوظيفة والطموح، بحيث بات دحلان عامل إرباك، ثم عامل منافسة وخطر على النحو الذي دفع “أبومازن” للذهاب بعيدا لردّ الأخطار عن أسوار حديقته.

هي فتح المؤتمر السادس التي أطاعت إرادة الرئيس بفصل دحلان وإبعاد تياره. كل ما فعله المؤتمر السابع هو مأسسة الفصل والإبعاد وجعله نهائيا بالانتخاب الذي جدد للجنة المركزية والمجلس الثوري. بمعنى آخر، لم يوقّع “السابع” إلا على مآلات ما انتهى إليه “السادس”، وبالتالي فإن ما وراء المؤتمر الأخير قد يتجاوز مسألة النزاع مع دحلان نحو الاستعداد لتحوّلات كبرى تجري في كل المنطقة، تتطلب من فتح أن تكون أكثر رشاقة ومرونة ولياقة للاتساق مع أي سيناريوهات قد تهبط ويعتمدها الرئيس.

لكن المؤتمر السابع الذي تمّ تقديمه بصفته إنجازا ثمينا داخل مفارقة طقوس من الأهازيج المتغنية بأناشيد الثورة القديمة، يخفي وجعا فتحاويا داخليا، ويكشف عن اندثار مرحلة بأدبياتها وشخوصها وبروز وجوه دون أدبيات جديدة.

يمثّل تمرير أكثر من 1400 عضو في المؤتمر لعملية بتر تيار محمد دحلان مفصلا موجعا لم يشهده الفتحاويون قبل ذلك. تعايشت التيارات المتباينة وحتى المتناقضة في عزّ الحرب الباردة والاستقطابات الإقليمية الحادة داخل البيت الفتحاوي الكبير دون أن يجرؤ أي طرف ليس بإقصاء، بل بالتفكير بإقصاء الآخر، أي آخر، في العقود السابقة. يرتكب المؤتمر تصفية حساب، ليس بين الحركة وأحد تياراتها، بل بين الرئيس وأحد القياديين، على نحو جعل من “أبغض الحلال” وسيلة سهلة لإجهاض أي نقاش داخلي وأي تباين صحي.

لكن الوجع أيضا يأتي من كون المؤتمر عُقد في أعقاب مبادرة قامت بها الرباعية العربية (السعودية، مصر، الإمارات، الأردن) لرأب الصدع الفتحاوي وتحقيق المصالحة مع دحلان. ويكفي للمتأمل أن يستنتج أن الدول الأربع تمثّل ثقلا عربيا حقيقيا بالنسبة لفلسطين، وأن رفض المبادرة أو تطويرها يعكس رغبة بالقطيعة مع ثقل عربي وازن، بغض النظر عن تفصيل الخلاف مع دحلان، وأن التوتر بين فتح وهذا الوعاء العربي بالذات يعد سابقة في تاريخ العلاقات الفتحاوية العربية.

قد يكون متعجلا الاستنتاج أن زيارة “أبو مازن” لقطر بعد رفض مبادرة الرباعية العربية وعشية عقد المؤتمر الأخير هي ابتعاد عن الرياض وأبوظبي وعمان والقاهرة لصالح الدوحة وربما أنقرة. لا يسعى عباس لتوسيع الهوة مع طرف ولا يملك ترف اللعب برشاقة على التناقضات. لكن الثابت أن أزمة مكبوتة تشتعل بين زعيم رام الله والجو العربي المحيط، على النحو الذي يستدعي أسئلة عن الجهات الإقليمية والدولية التي يستند عليها الرجل في القيام بتلك الجراحات الفتحاوية وبعدها الفلسطينية على مستوى منظمة التحرير دون الخشية من أي أعراض جانبية مقلقة.

والظاهر أن “أبو مازن” الذي خبر يوما مرارة العيش في ظل “أبو عمار”، قد خبر أيضا شؤون حكم الناس والتقاط المزاج الدولي المحيط. بدا عباس ماهرا في خلط الأوراق واجتراح خرائط التحكم، والأدهى من ذلك أن الأداء بدا سلسا وكأنه مبارك من محافل العالم الكبرى. على هذا بالإمكان الاستنتاج أن رئيس السلطة الفلسطينية ما زال رقما صعبا، وربما مطلوبا، من الدوائر المعنية بشؤون المنطقة، من تل أبيب مرورا بالأوروبيين، وصولا إلى واشنطن.

ولكن ماذا بعد المؤتمر؟ فرض الرئيس محمود عباس أمرا واقعا على الفتحاويين كما على الرباعية العربية. لن يكون الرجل قلقا إذا ما قرر تيار دحلان الدعوة إلى مؤتمر مضاد، على ما لوّحت بعض وجوه “التيار الإصلاحي” الذي يتزعمه، لا بل سيكون مسرورا بأن يؤكد دحلان وتياره الابتعاد عن فتح – المؤتمر من خلال التظلل تحت أي فتح أخرى. ومن غير المتوقّع أن يلجأ دحلان نفسه إلى مؤتمر يمأسس انفصاله عن فتح الأم، دون أن يكون مستبعدا تنظيم تجمعات احتجاجية بأشكال مختلفة ضد المؤتمر الأخير. والأرجح أن ينصت دحلان إلى الرسالة المفتوحة التي وجهها له وزير العدل الفلسطيني السابق فريح أبو مدين أن “لا تشد القوس إلى مداه بفكرة المؤتمرات وما شابه”. لكن القلق الحقيقي قد يكون مصدره هذا المحيط العربي الذي قد يرى في موقف عباس من “الرباعية” تبرؤا من البيئة الحاضنة التي تبنت دائما خيارات الفلسطينيين دون تدخل في شؤونهم، وأن الحرص على التوسط لإنهاء خلاف الفتحاويين لا يجوز أن يُقابَل بالردح دفاعا عن “القرار الفلسطيني المستقل”.