الاضطراب الإيراني والاستنفار التركي/رضوان السيد

غصّت نشرات الأخبار في الأيام الأخيرة بوقائع وتموجات الحراكين الإيراني والتركي، والإيراني أكثر من التركي. فقد تبيَّن أنَّ إيران ما تزال تسعى إلى تكوين ميليشيات جديدة في العراق تستخدمها هذه المرة للتحرش بالأكراد، وترسل بعضها الآخر للقتال في سوريا. وبعض تلك الميليشيات نجمت عن انشقاقات أحدثها الإيرانيون في جيش المهدي أو جيش السلام الذي شكّله مقتدى الصدر. وإيران منزعجة من الصدر وقواته، لأنها لا تسيطر عليها، ولذلك يعمد سليماني (للمرة الثالثة) إلى دفع مرتبات أكبر للمنضوين مع الصدر لكي يتبعوا (الحشد الشعبي) إنما هذه المرة بوظائف أخرى. وكان أحد قادة ميليشيا حزب الله قد صرَّح في الأيام الأخيرة أنّ «سرايا المقاومة» المنتشرة في المدن والبلدات السنية بلبنان يبلغ كثيرها الخمسين ألفًا، وهي متخصصة للتصدي «للأعداء الداخليين»! وإلى ذلك طلب حسن نصر الله في أحد خطاباته المتكاثرة من جديد من «داعش» التوقف عن مُعاداة الحزب، ما دام الطرفان لهما عدوٌّ مشتركٌ هو الولايات المتحدة الأميركية!

2646

وإلى هذا الزُحار الميليشياوي الإيراني للقتال في كل مكان على الأرض العربية، تنافر الروس والإيرانيون علنًا بشأن الاتفاق على أن يستخدم الطيران الحربي الروسي قاعدة في همدان الإيرانية لقصف سوريا. وبعد مرتين أو يومين متتاليين فاخَرَ الروس بذلك، فانزعج نواب وعسكريون إيرانيون، وأخذوا على روسيا عجرفتها وإعلانها الدعائي، مما دفع الروس للقول إنهم لن يستخدموا القاعدة الهمدانية مؤقتًا، لكنهم سيعودون لاستخدامها إن رأوا ذلك ضروريًا لأنّ الاتفاق موجودٌ وحاصل! ويبدو أنّ نصر الله ما كان شاعرًا باضطرار إيران لاستجلاب المساعدة من روسيا في حربها على الشعب السوري؛ لأنه زعم في خطابٍ أخير له أنّ الحزب صار قوة إقليمية بعد حربه على إسرائيل عام 2006. وسيصبح قوة عالمية عندما ينتصر في سوريا! أمّا الحرس الثوري فقد أطلعنا على تنظيمٍ جديدٍ لكتائب إيران الثورية بالخارج عندما قال المتحدث باسمه إنّ هناك قيادة مشتركة جديدة لقوات الثورة الإيرانية الخارجية، تشمل العراق وسوريا واليمن!

لماذا برزت الحاجة الإيرانية الآن لتسعير القتال في الوقت نفسه بالعراق وسوريا واليمن وربما في لبنان؟ هناك تصدع الجبهات في حلب. وهناك الصراع المستجد بين إيران (وشيعة الحكومة العراقية) من جهة، والأكراد الإيرانيين والعراقيين والسوريين من جهة أُخرى. وهناك المحاولة الإيرانية لاجتذاب الأتراك بعد الانقلاب الفاشل، وسوء العلاقة مع الولايات المتحدة والأوروبيين. لكنهم عندما يذهبون إلى أنقرة (كما فعل محمد جواد ظريف)، ينبغي أن يكونَ عندهم ما يعطونه أو سيستخفُّ التركي بهم. وقد كان عندهم حلب وما عادت كذلك. وفي اليمن تتقدم قوات الشرعية، وصاروا مسؤولين عن كل شيء في سوريا، لكنهم ما عادوا يستطيعون الرهان والاتجار هناك ولا الانتصار، ولذلك اضطروا لإغراء الروس بكل سبيل، وهم يحاولون الآن إغراء إردوغان، فضلاً عن غرام أوباما الذي لا ينتهي بهم. قال لي إيراني معارض: ما أضر أحد بإيران كما أضرّ بها أوباما العاشق، فقد تركهم يندفعون بكل اتجاه مع بسمة رضا وإعجاب، وهم يكشرون الآن في وجهه بزعم أنّ ولدهم نصر الله قد صار قوة عالمية!

أما وضع تركيا فهو أقلّ صعوبة، رغم الانقلاب، وانجراح هيبة إردوغان بالداخل ومع روسيا. فالروس والإيرانيون محتاجون إليه للحل أو الحرب في سوريا، ومع الأكراد. والأميركان والعرب يعتقدون الآن أنهم أخطأوا كثيرًا في حقه، وهم يريدون التعويض عليه وشراكته بأي سبيل حتى لا يمضي بعيدًا في علاقاته مع روسيا وإيران. وقد بدأ يستفيد من الوضع الجديد، بالإعلان عن اتجاه الجيش الحر انطلاقًا من تركيا لطرد «داعش» من جرابلس، وربما تتوجه كتائب منه باتجاه الباب. ويبالغ قادة الجيش الحر في التفاؤل، فيعلنون أنهم لن يحرروا جرابلس وربما الرقة فقط؛ بل سيطردون القوات الكردية من المناطق التي أخذتها منهم. ويصل إلى أنقرة نائب الرئيس الأميركي بايدن ليحاول تهدئة تركيا المستثارة والساخطة، وليس بسبب الموقف على الحدود مع سوريا فقط (بعد ضربة «داعش» الأخيرة بغازي عينتاب واستيلاء الأكراد على منبج من «داعش»)؛ بل بسبب موقف الولايات المتحدة من الانقلاب الغولاني، وإعراض الأوروبيين عنها. في السنوات الأخيرة ما استفاد إردوغان شيئا من الغضب والحرد.

ماذا يريد الإيرانيون وماذا يريد الأتراك في سوريا ومن سوريا، بحيث نستطيع أن نحكم على تطورات علائقهم مع أميركا وروسيا؟ يريد الأتراك في الحد الأدنى أن تؤمن حدودهم من التقدم الإيراني ومن الكيانية الكردية. وما استطاعوا تأمين ذلك في السنتين الأخيرتين فغضوا النظر عن «داعش» و«النصرة»، وساعدوا بالسلاح والتدريب كتائب المعارضة الأخرى. وكما لم يستطيعوا التأثير على الأميركان وإيران، كذلك اشتبكوا مع روسيا كما هو معروف. ثم تغير الموقف بشكل راديكالي: قوّوا الثوار بحلب فحققوا اختراقات معتبرة، والتفتوا للتصالح مع روسيا وإسرائيل، وتحرك الأكراد الإيرانيون فارتعب الإيرانيون وطالبوا تركيا بالتعاون من جديد. وعرف الأميركان أنهم سيكونون أكبر الخاسرين في الشرق الأوسط إن فقدوا تركيا، وأوباما مسرور بالشغف الإيراني والتأسيس الكردي للدويلات. ولذلك جاء بايدن إلى تركيا بعد طول تردد. ماذا يريد الإيرانيون؟ الإيرانيون يريدون كل شيء: العراق وسوريا ولبنان والبحرين واليمن.. إلخ. وقد اقتربوا كثيرًا من الروس دون أن يتطابقوا، وعندهم ضوء أخضر من الأميركان. ولأنهم متطلبون ومتخلفون، فإنهم لا يرضون بأقل من الاحتلال في كل الأماكن حتى في غزة. ولذلك تذمر منهم الجميع وآخرهم الروس، وهم من السذاجة أو الوقاحة بحيث يعتقدون أنّ الجميع يصدقونهم إذا ضربوا في الأرجنتين مثلاً بحجة مصارعة السعودية أو إسرائيل! ولأنّ مطامعهم بهذا الشمول وبهذا العمق، فإنهم فضلاً عن تنفير الجميع، يعتمدون «الحلَّ النهائي» بالقتل والتهجير والتطييف أو الحرب الدينية (!). ولذلك كلّه، ورغم الضيق الهائل النازل بهم بسبب ضخامة الأهداف؛ فإنهم الأقلّ تقبلاً للوصول إلى تسوية، يبدو أنّ الأميركيين والروس.. والأتراك سائرون باتجاهها في المدى المتوسط.

الأميركيون يريدون البقاء سادة للمنطقة والعالم، وهم يستخدمون الآخرين في ذلك، ولا يهمهم طول المدة. أما الروس فيريدون النفوذ والندية مع أميركا لكنهم لا يستطيعون الصبر طويلاً؛ لأنه مكلفٌ ماديًا ومعنويًا. والأتراك كانوا يريدون نفوذًا في العراق وسوريا ولو بالتوافق مع إيران، وهم لا يريدون الآن أكثر من حماية حدودهم من الكيانية الكردية! والعرب الذين ينبغي أن يهمهم انتماء سوريا ووحدة أراضيها وبقاء شعبها، ما عاد مهتم منهم حقًا بسوريا العربية غير المملكة العربية السعودية. أما الإيرانيون فيريدون كل شيء، ومستعدون للتضحية بكل الشيعة العرب والأفغان والباكستانيين. ولذلك قلت إنّ تركيا مستنفرة، أما الإيرانيون فهم في حالة اضطرابٍ هائل.. ويا للعرب!

نقلاعن :ایلاف