ثورة ماو الثقافية.. ما فائدة تجاهل ذكراها؟/عبداالله المدني

خلال سنوات حكمه الثلاثين تسبب ستالين في فناء ما لا يقل عن 40 مليونًا من شعبه، قضى بعضهم في الحرب العالمية الثانية فيما قضى البعض الآخر في عمليات التطهير العرقي والتهجير القسري ومعسكرات العمل الإجباري في سيبيريا المتجمدة.

وتسبب هتلر بحروبه التوسعية المجنونة ونزعته العنصرية في مقتل 17 مليون سوفياتي و6 ملايين من اليهود، إضافة إلى 6 ملايين ألماني على أقل تقدير.
وتسبب الزعيم الكمبودي المختل عقليًا «بول بوت» خلال 3 سنوات من حكمه الأسود في موت أكثر من مليون كمبودي بريء من خلال عمليات الإعدام وتصفية المعارضين وفرض العمل القسري في «حقول الموت»، مع منع الأغذية والرعاية الطبية عنهم، بل منعهم من ارتداء النظارات الطبية. وبعد أن قتلهم احتفظ بجماجمهم لبث الرعب.

4205

أما الزعيم الصيني «ماو تسي تونغ»، فلم يقل دموية عن كل هؤلاء إن لم يزد عنهم على الرغم من الهالة التي أحيطت به كبطل من أبطال العالم الثالث. فقد تسبب أولاً في مقتل ما لا يقل عن 80 ألف رجل وامرأة وطفل حينما قاد مائة ألف صيني عبر الجبال والصحاري والغابات سيرًا على الأقدام في عملية «الزحف الكبير» للاستيلاء على السلطة. ثم تسبب في دفع الملايين من شعبه نحو الفقر المدقع والجوع، وبالتالي الموت حينما دشن في نهاية الخمسينات مشروعه المعروف باسم «القفزة الكبرى» والذي أجبر فيه الملايين من الفلاحين والعمال والمدنيين على العمل في برنامج صناعي بمعدل سريع لتحقيق نتائج كبيرة لم يكن الصينيون قادرين على مواكبتها.

لكن أكبر جريمة وحماقة تنسب إلى ماو هي «ثورة البروليتاريا الثقافية الكبرى» التي أطلقها في مايو 1966. ففي تلك الفترة حاول رفاقه داخل الحزب الشيوعي أن يستغلوا إخفاقاته في مشروع «القفزة الكبرى» للتقليل من سلطاته وتحويله إلى مجرد رمز بدون سيطرة حقيقية على أمور الدولة والمجتمع. لكن المعلم ماو قلب الطاولة عليهم بأن دعا الشباب إلى القيام بثورة ثقافية ضد الزعامة الشيوعية في البلاد بدعوى أنها مخترقة من القوى الرأسمالية والبرجوازية. وقد استجاب مئات الآلاف من الشباب وطلبة المدارس والجامعات، ممن سموا لاحقًا بالحرس الأحمر، للدعوة بحماس فهاجموا المدرسين ومسئولي التعليم والاجهزة البيروقراطية واخرجوهم من مكاتبهم وتم عرضهم في مواكب مهينة وإرغموهم على الاعتراف بأمور لم يرتكبوها في محاكمات شعبية سريعة. ثم امتدت الأيادي الماوية الهمجية إلى أهداف أوسع وصفت بالمشجعة على البرجوازية مثل المكتبات والمعابد والمتاحف ومعاهد الموسيقى والفنون التي تم حرقها او نهبها او تحطيمها، بل راحت جموع الشباب المهووسة تنتقم بالقتل من كل صيني مبدع تقول سيرته أنه درس أو عاش في الغرب. وما بين هذا وذلك كان ماو يسوق، باسم الثورة الثقافية، الملايين من شعبه إلى الأرياف النائية بدعوى إعادة تأهيلهم في معسكرات خاصة، فقضى جلهم هناك تحت التجويع والتعذيب البدني والنفسي.

وكي يضمن ماو عدم تراجع زخم شعبيته لدى الشباب كزعيم بروليتاري فذ مقاوم للرأسمالية والبرجوازية، فقد سن سياسة «عبادة الفرد» من خلال فرض حفظ كتابه الأحمر، وانحناء الأسر يوميًا أمام صورته، وتقليد الطلبة لمسيرته الطويلة بالسير إلى بكين، وإعتبار أن من يستخف بهذه الأمور عدو يجب معاقبته، الأمر الذي لم يؤدِ فقط إلى موت مئات آلاف أخرى من الصينيين، بل أدى أيضا إلى توقف النظام التعليمي تماما، وشيوع الفوضى في طول البلاد وعرضها، والانجراف شيئًا فشيئًا نحو الحرب الأهلية.
وحينما تأكد ماو في أواخر 1966 أن الأمور قد تفلت من يده، بعدما باتت أصوات إطلاق النار والقنابل تسمع في المدن، إضطر إلى تهدئة الأمور. ومن أجل ذلك اعتمد على الجيش للسيطرة على الحكومات المحلية والطلبة والجامعات والمصانع ومجموعات الحرس الأحمر المتنافسة، فيما اعتمد الجيش بدوره على لجان ثورية شكلها في كل مقاطعة لإخماد الثورة الثقافية التي توقفت بالفعل، خصوصًا بعدما أمر ماو جيشه بقمع الحرس الأحمر وترحيلهم إلى الأرياف النائية، حيث بلغ عدد من تم ترحيلهم الى هناك بحلول نهاية 1968 نحو 17 مليون نسمة.
مؤخرًا تجاهلت وسائل الإعلام الرسمية في الصين الذكرى الخمسين لثورة ماو الثقافية الحمقاء التي أفنت 1.5 مليون صيني واضطهدت وأذلت ملايين أخرى، مؤكدة موقف الحزب الحاكم المرتكز على أن تلك الثورة كانت خطأ كارثيًا يجب تجنب تكراره، وذلك تمشيا مع وثيقة أصدرها الحزب في 1981 ووصف فيها للمرة الأولى ما فعله ماو بـ «الكارثة بالنسبة للحزب والدولة والشعب».
لكن من حق المراقب أن يتساءل ما فائدة انتقاد ذلك الحدث المروع أو تجاهل ذكراه السنوية اليوم؟ بل حتى لو أقدمت بكين على الاعتذار لضحايا الثورة الثقافية وأسرهم وأحبابهم وهو ما لم تفعله حتى اليوم بطريقة مباشرة فلن يجد ذلك نفعًا طالما أن صورة ماو الجدارية لا تزال مثبتة في أكبر ميادين بكين، ومطبوعة أيضا على النقد المتداول يوميا، مذكرة الصينيين في كل لحظة بالرجل الذي تسبب لهم بسلسلة بشعة من الكوارث والمعاناة الطويلة التي لن تجدي مراهم الدنيا في مداواتها.
وإذا كان قادة الحزب الشيوعي الحاكم جادين فعلاً في التكفير عن ذنوب أسلافهم، فإن أقل ما يمكنهم عمله هو الاقتداء بالألمان الذين طمسوا ذكر هتلر ونظامه النازي إلى الأبد.
أستاذ في العلاقات
الدولية متخصص في الشأن الآسيوي من البحرين

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *