المناصفة.. هل أخطأ سعد الحريري/محمد قواص

ليست المناصفة مزاجا عند سعد الحريري بل هي ثابتة تكاد تكون بيولوجية، على الرغم من أن احتقان الطوائف لا يروج لها.

2291

استند سعد الحريري في تصليب حملته الانتخابية لـ“لائحة البيارتة” في الانتخابات البلدية لمدينة بيروت على مسألة المناصفة بين المسلمين والمسيحيين. اعتمد الرجل على لائحة وشخصيات وبرنامج للدعوة إلى انتخاب اللائحة “زي ما هي”، لكن حجته الأقوى، رغم كل شيء كانت مسألة المناصفة.

في خطبه التي كثرت من منبر إلى آخر أكد الحريري أنه سيكون معنيا، مباشرة وشخصيا، بأداء المجلس البلدي لبيروت، في تلميح، يشبه الاعتراف، بأنه لم يكن كذلك إزاء المجلس البلدي السابق، وبالتالي فهو متبرئ من أداء مثير للجدل انتُقد بشأنه المجلس المنتهية ولايته. وفي ذلك التبرير وجاهة، ذلك أن لخروجه من البلد وبقائه في المنفى طوال السنوات الماضية أسبابا قسرية مرتبطة بموقفه السياسي والأخطار الأمنية التي تعرّض لها بسبب هذا الموقف.

لكن رئيس الحكومة الأسبق وزعيم تيار المستقبل يعلم أن الابتعاد الشخصي عن لبنان وعن بيروت ليس مبررا للابتعاد عن أداء مجلس لم يكن لينتخب إلا لكونه خيار الشيخ سعد وتياره السياسي، وأن الزعيم الذي كان يقرر عن بعد خيارات “المستقبل” السياسية، بما في ذلك تشكيل الحكومة الأخيرة، واختيار وزرائه فيها، كما توجهات حزبه، كان قادرا على ممارسة وصاية مباشرة على خيارات بلدية لا يعتبر كثيرون أنها جانبت كثيرا من الصواب.

للمجلس البلدي السابق ظروف وشروط أملت أداءه، كتلك التي تتحدث عن مناكفة دائمة بينه وبين محافظ المدينة. لم يعترض البيروتيون في السنوات الست الماضية على همّة بلدية المدينة، ذلك أن العامة من سكان المدينة قليلا ما عرفوا أن لديهم حقوقا على هذه البلدية في تقرير يوميات مدينتهم، وكثيرا ما عرفوا البلدية من خلال ورشة انتخابها أو من خلال رسومها. وما الذين فتحوا ملف السابقين إلا “لوبيات” تضررت من مشاريع أو من غياب مشاريع، أو جمعيات متخصصة من المجتمع المدني تعرف ما يجب على أي بلدية أن تفعله لتحسين عيش المواطن داخل مدينته.

لا يتحمل سعد الحريري وزر ذلك، ولا يمكن لمن مخر أنواء مستحيلة في زمن لبنان الصعب والاستثنائي أن يكون مسؤولا عن أعباء يفترض لـ“تقنيي” البلدية أن يتكفلوا بها. بيد أن تجاوز الأمر وحصره بمسألة المناصفة قزّما المضمون الحقيقي لورشة إنمائية تحتاجها عاصمة لبنان من خلال انتخاب مجلس بلدي جديد لبيروت.

والمناصفة شعار ورثه سعد عن والده رفيق الحريري. لم تعبّر المناصفة عند الحريري الأب كما عند الحريري الابن عن خيار يمن به على المسيحيين، أو عن شعار فلكلوري يستخدم لدغدغة عواطف الشركاء في الوطن، بل عكست لبّ الحريرية السياسية في فهمها للبنان وفي ما ترومه للبلد. بمعنى آخر إن وجه لبنان المسيحي هو قناعة تامة تبنتها الحريرية وسحبت جمهورها باتجاهه، وجعلت من المشهد المسيحي عاديا في وجدان الحريريين، لا سيما في عمق سنّة لبنان.

حين أجبرت السياسة سعد الحريري على اتخاذ قرارات لا تحظى بشعبية لدى جمهوره المسلم، وجد هذا الجمهور في شخصيات مسيحية، لا سيما الدكتور سمير جعجع، ملاذا يعتدّ به ويُجاهر بالإعجاب به دون حرج. استطاعت الحريرية التي دفع ثمنها رفيق الحريري حياته أن تعيد الاعتبار لقيادات مسيحية كانت خصما إبان الحرب الأهلية اللبنانية داخل الوجدان السني العام. يعرف سمير جعجع ذلك وقد خبر منذ خروجه من السجن ليعيد اكتشاف ذلك البعد الذي كان يجهله لدى الشريك المسلم.

على أن ما سهل تسويقه في مواسم المواجهة مع الوصاية السورية وسلاح حزب الله، صعب عرضه في مواسم المحاصصة في إدارة البلد. بدت المناصفة شعارا حريريا، حتى لا نقول إسلاميا، وكأنها حقّ مكتسب بالنسبة إلى الحلفاء المسيحيين داخل “14 آذار” لا تأخذ بعين الاعتبار مزاجا إسلاميا سنيا بدأت تروج داخله مظلومية تعتبر أن سنة البلد باتوا ضحايا تلك المناصفة العزيزة على قلب الحريري، وتلك المثالثة الكامنة التي تطل بوجهها كلما أطل “سيّد المقاومة” يتحدث عن أزمة النظام السياسي ويلـمح إلى حلوله.

قد يؤاخذ على القوات اللبنانية بصفته الحزب الشريك لتيار المستقبل أنه لم يعمل على تأصيـل تلك المناصفة في وجدان الأنصار كتلك التي نجحت بها الحريرية السياسية عند الأنصار. بدا تضامن سمير جعجع مع سعد الحريري كيفيا متعدد السرعات وفق أجندات “الحكيم” وخياراته، لا وفق أجندات الحلف وثوابته. ذهبت القوات مذهب “العونية” السياسية في الحديث عن حقوق المسيحيين منذ تبني قانون الانتخابات المسمى “الأرثوذوكسي”، وصولا إلى الانسياق نحو “العونيّة” و“ورقة النوايا” معها تحريا لقرار مسيحي قوي مستقل.

تكشف الانتخابات البلدية الأخيرة أن المناصفة بمعناها الدقيق، أي أنها شراكة متساوية بين المسيحيين والمسلمين، هي شعار سعد الحريري وحده. فالهرولة التي عبّر عنها الاقتراع الأخير سواء في بيروت أو زحلة عكست توق الأحزاب المسيحية، لا سيما بما تنتجه “ورقة النوايا” بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، لتحقيق تسونامي يصادر الصوت المسيحي في الطريق لمقارعة مقبلة مع الشريك المسلم. وكشف اقتراع الأقلام المسيحية في بيروت عن أن شروط التحالف مع “المستقبل” انتقائية مزاجية، وأن التعبئة داخل جمهور الأنصار لا تتّسق مع خطاب القوات المعلن.

لا يمكن للقوات اللبنانية، أي الشريك المسيحي الأساسي لسعد الحريري وتياره، أن يتذرع بمزاج مسيحي لا يمكن ضبطه حين يدعو “الحكيم” جمهوره إلى انتخاب “لائحة البيارتة” بطريقة توحي بأن الدعوة صورية، لا سيما في تلميحه بأنها “تجربة أخيرة”، بما يستبطن، ولو عن غير قصد، دعوة مضادة. لم يبذل شركاء المستقبل المسيحيون جهدا ولا سمعنا عن مهرجان ولا نشطت حملة انتخابات حقيقية لهم في بيروت. بدا أن النصف الثاني من المناصفة ترك للحريري أن يأتيهم بها فيما هم منهمكون في حسابات أخرى.

لا يمكن لسعد الحريري إلا أن يستنتج ذلك، وأن يكتشف بألم أن هناك حلفاء “فتحوا خطوط حساب مع المرشحين خارج اللائحة مما هدد المناصفة، وهذا لا يشرف العمل السياسي والانتخابي”.

تتصرف الأحزاب المسيحية بعقلية ما قبل الحرب الأهلية وما قبل الطائف، وفي خلدها توق لمحو التاريخ والقفز فوق عقود تبدل فيها العالم أجمع. ازدهرت خلال الأيام الماضية عبقرية مخبرية تفصل ما بين الصوت المسلم والصوت المسيحي لتظهير النقاء المسيحي للوائح المسيحيين، على ما يفيض تخلفا في فهم الفكرة اللبنانية بالطبعة الحديثة. بدا النزوع إلى توحيد المسيحيين يشبه الدفاع عن “جنسهم” وليس عن مشروعهم. بالمقابل توجّه سعد الحريري إلى اللائحة المنافسة بالقول “أنتم تشبهوننا ولا تشبهون من حاول كسر المناصفة بين المسلمين والمسيحيين فى بيروت”. لا أعرف ماذا يدور في خلد سعد الحريري بعد هذه التجربة. ربما يتساءل في دواخله عما جعله مواجها لـ“بيروت مدينتي” وهي التي تمثل تكاملا، ولو مناكفا، لمشروعه ومشروع أبيه.

ليست المناصفة مزاجا عند سعد الحريري بل هي ثابتة تكاد تكون بيولوجية، على الرغم من أن احتقان الطوائف لا يروّج لها. أسدل الرجل الستار على العرض فخورا بإنجازه “نحن وأنتم من حمى المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، تذكروا يا أهل بيروت عندما يتم اتهامكم بالطائفية، تذكروا أنتم من حمى المناصفة”.

ربما بات مطلوبا على تيار المستقبل وحلفائه إجراء مراجعة حقيقية تجيب على أسئلة ملحة لفهم يأس المقترع من صندوق الاقتراع، وتحلل الحلفاء من أحلافهم وصعود الخيار الآخر الخارج عن أي اصطفافات حزبية تقليدية تكاد تصبح بليدة متغربة عن شروط العصر. عندها فقط قد تستعيد هذه المناصفة معناها وجدارتها ولزوميتها.

نقلا عن العربیه

صحافي وكاتب سياسي لبناني

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *