عُمان: قلبٌ على التاريخ وعينٌ على الجغرافيا | محمد قواص

من سكون لافت تنطلقُ سلطنة عُمان في مقاربتها للعالم أجمع. في السكون نضجُ الحكماء وفي اللافت حنكةُ الخروج بمعادلات بعيدة عن ضجيج الفُرجة. تطوي السلطنة سنينها، وهي تحتفل هذه الأيام بالعيد الوطني الـ45، وهي تنعمُ باستقرار في منطقة تعبثُ بها القلاقل، وتتحرى كل فجر صوْن نمو وحماية تطوّر يقي السلطنة مزاج هذه الأيام.

38

تستفزنا عُمان في قدرتها على إدراك العالم بعين الناسك وفراسة الروّاد. هذا “الربيع” يعبثُ بصخبه من محيط إلى خليج، فيما مسقط تقفُ تقارب الأنواء بحرفة البحارة القدماء. لا تدّعي السلطنة امتلاكها لأسرار البقاء وتعاويذ الوقاية، لكنها ببساطة تعرفُ ذاتها وتاريخها، وتعرف حاضرها وقدراتها وإمكاناتها، وتدرك بحذاقة مزاج العُمانيين وتعرف بنباهة رصد همومهم.
في فلسفة السلطنة أن استقرار الذات وازدهارها يمرُ من خلال استقرار وازدهار الآخر، ولهذا تنشطُ مسقط في أي جهد يجلبُ للآخر والنفس تلك السكينة وذلك الاستقرار.
بين السلطان قابوس بن سعيد والعُمانيين عقدُ محبّة وعقد ولاء. يعرفُ العمانيون أن لسلطانهم بوصلة قيادة لم تخطئ منذ قيادته لسفينتهم (1970). حمل الرجلُ خرائط للإبحار ببلده داخل دهاليز ملغّمة تفرضها لعبة الأمم. تعايشت السلطنةُ مع الحرب الباردة والحمى العروبية ورياح الإسلاموية. أطلّت مسقط على مواجهات وصراعات، وهي المشرفة في الجغرافيا والتاريخ على مضيق هرمز، أحد أهم المعابر البحرية الدولية. عاشت تناقضَ الغرب والشرق، كما تناقضَ العرب والفرس. تسللت إلى سمائها في حقبات ماضية غيوم مخصّبة بالأيديولوجيات الوافدة من بعيد، لكن عبقرية ما نجحت، دائماً، في حماية البلد والنأي به عن نزق العالم.
في الشكل والمضمون وأسلوب الحكم وتعابيره تُفصحُ عُمان عن فلسفة عيشٍ وتعايش. والوصفةُ العُمانية سهلة بسيطة معلنة. في الداخل إنصاتٌ للناس ومتابعةٌ يومية لسيرورتهم ومهارةٌ في التقاط رسائلهم. وفي الخارج تمسكٌ بالانفتاح على كافة الأطراف على تناقضها وتعقّد علاقاتها، وعملٌ ناشط للعب دور الوساطة والحدّ من الخصومات. لا تسلك السلطنة دروب الوسطية زهداً أو تنسكاً، بل لسبب جذري أصيل: مصالح عُمان.
ضريبة الجغرافيا تفرضُ على عمان احترام سيرة تاريخها كما قواعد حاضرها. مصلحة عُمان هي الفيصل في خيارات الحكم العُماني. تفرضُ تلك المصلحة انتماء البلد إلى محيطه العربي العام، ومحيطه الخليجي الخاص. ومصلحةُ البلد تفرضُ نسجَ علاقات مميزة مع الجار الإيراني سواء حكمه شاهٌ أو ولي الفقيه. ومصلحة عُمان تفرض تنويع علاقات البلد غرباً، نعم، لكن مع حرص على الانتشار نحو الشرق. ومصلحةُ عُمان هي في انتهاج اعتدال ديني يقي البلد شرور التطرف والمذهبية وآفاتها. وفي التعابير العُمانية ما يشي بثبات على نهج لا يتبدل ولا يرتبك مهما تباينت الظروف واختلفت الحكايات.
عُمان ارتضت دورا يحتاجه العالم. بمعنى آخر لا تتحرك مسقط وفق أهواء عمانية داخلية فقط، بل تبعاً لقدرتها على قراءة حراك العالم
بإمكان أي مراقب للشأن العُماني أن يستشرف الموقف العماني من هذا الاستحقاق أو ذاك، ولن يخطئ في التفطّن لوجهاته. ومع ذلك لطالما تشاطر المتشاطرون في إبداء اندهاش من ثوابت، من المفترض أنها دفتر سلوك لا يدعو للدهشة في يوميات السلطنة منذ أن أسس السلطان قابوس قواعدها.
عمان دولة عضو في جامعة الدول العربية متضامنة مع ما يجمعُ عليه العرب ولا تدخل طرفاً في ما يختلفون عليه (لم تلتزم بقرار قمّة بغداد مقاطعة مصر بعد كامب ديفيد قديماً، ووقفت على الحياد بشأن الإطاحة بحكم الإخوان حديثاً). وعُمان عضو في مجلس التعاون الخليجي تعملُ لازدهار البيت الخليجي في حدود ما لا يجعلها جزءا من أحلاف تستفز، وما لا يدمجها في ما يهدد سيادتها واستقلالها. ولعُمان خيارات استراتيجية في الأحلاف الدولية إلى الحدود التي تجعلها عنصر وفاق ومركز توافق تقرّ الجهات الأربع بلزوميته.
لن تدخل عُمان في وحدة سياسية خليجية، ولن تُخضع عُملتها لإدارة فوق عمانية، ولن تكون قواها العسكرية خاضعة لطموحات تُقاد من خارج مسقط. في ذلك كان يوسف بن علوي، وزير الدولة للشؤون الخارجية، في منتدى الأمن الخليجي بالمنامة (ديسمبر / كانون الثاني 2013) شديداً وحاسماً.
لن تسمح السلطنة بجعل انتمائها العربي والخليجي، الذي تفخر به، سببا يباعدُ بينها وبين إيران، فما بين البلدين حكايات في التاريخ منذ بدء التاريخ، كما مصالح مشتركة في الإطلالة على البحار وفي إدارة منافع الثروة والاقتصاد في فضائهما الجيو استراتيجي المشترك. ولا شك أن في تلك الخيارات، ما يمقته حلفاءٌ وما لا يستسيغه أصدقاء، ما يجعل من خيارات عُمان تمريناً صعباً معقّداً على الرغم من واجهته الوسطية المعروفة.
تبدو عُمان حاجةٌ للعالم أجمع، لا سيما لأولئك المهتمين بشؤون الشرق الأوسط. استضافت مسقط المفاوضات الأميركية الإيرانية دون صخب، فيما قطفت فيينا، بصخب، ثمار الإعلان عن الاتفاق النووي الشهير بين المجتمع الدولي وطهران. أعادت مسقط فتح أبوابها لمفاوضات جديدة حول المأزق اليمني، وهي التي ابتعدت عن الجهد العسكري، ربما لتبقى جاهزة للعمل بحيوية في المجال الدبلوماسي. وتبدأ الدبلوماسية العُمانية تحركاً حذراً لمقاربة المأساة السورية بقدرتها على فتح قنوات الاتصال مع كافة الفرقاء، وهي مهمة تعجز عنها، في الحالة السورية، أية عاصمة أخرى (زيارة بن علوي لدمشق جاءت بعد استقبال مسقط لوفد من المعارضة).
في المشهد الدولي من يعتبر أن أمنه وبقاءه يكبران كلما تعثّر أمن الآخرين. في ذلك ميكيافلية تفيدُ أن التهاء الآخر بمآزقه يبعدُ الأخطار عن أمن الأنا. لكن لعُمان فلسفة أخرى. تعتبرُ مسقط أن للتوتر في المنطقة سمات العدوى، وأن نزع فتيل الأزمات يوقف زحف الأوبئة. تعملُ السلطنة على الخروج بحلّ يمني (متناسق مع الموقف الخليجي على ما أعلن وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في مسقط) يوقفُ شرور انعدام الأمن في المنطقة. لا يختلفُ ديدن عمان في مسعاها عن مقاربة الأمر الإيراني، ذلك أن اتفاقاً مع العالم، حسب رؤى مسقط، “يورّط” إيران بخيارات السلم ويضعف نزوع بعضها للحرب. في ذلك أن همّة عُمان في المسألة السورية تنبعُ من شغف دولي يخشى من تحوّل ما هو محليّ إلى صدام دولي مقيت.
ارتضت عُمان دورا يحتاجُه العالم. بمعنى آخر لا تتحركُ مسقط وفق أهواء عمانية داخلية فقط، بل تبعاً لقدرتها على قراءة حراك العالم، بما يجعل من تدخلها لزوم جهد جدي ناضج لا يتيح فشلاً ولا يسمح بأي ارتجال. هكذا هو أمر هذه السلطنة، فحين تُطل أشرعتها على شاطئ ما فاعرف أن الرسوّ بات قريباً. هكذا لمسنا أمر الملف الإيراني، وهكذا نراقب بدقة أمر ملفيْ اليمن وسوريا. في ذلك أن للأيام المقبلة عبقٌ عُماني يشبه بخورها الشهير.
صحافي وكاتب سياسي لبناني

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *