ثلاث ظواهر مزمنة في جمهوريات آسيا الوسطى | د. عبدالله المدني

أتذكر أن أحد أساتذتي كلفني ذات مرة بإعداد دراسة حول أكثر وأقل دول الاتحاد السوفيتي السابق نجاحا لجهة تطبيق الديمقراطية وبرامج الإصلاح السياسي. فتوصلت بعد بحث مضن إلى نتيجة مفادها أن أكثر تلك الدول نجاحا هي جمهوريات البلطيق الثلاث «لاتفيا وليتوانيا واستونيا»، وأقلها هي جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية «اوزبكستان وطاجيكستان وكازاخستان وقيرقيزستان وتركمانستان، إضافة إلى آذربيجان». أما الأسباب فتمثلت في وجود إرث ديمقراطي سابق لضمها إلى الاتحاد السوفيتي في حالة مجموعة الدول الأولى وانعدامه في حالة مجموعة الدول الثانية. واكتشفت على هامش البحث أن الأخيرة لا تعاني فقط من فشل تطبيقها للديمقراطية، وإنما تعاني أيضا من ظاهرتين خطيرتين هما الفساد المستشري في مفاصل الدولة، واحتكار الزعيم الفرد للسلطة. وهما ظاهرتان عبدتا الطريق أمام بروز ظاهرة ثالثة هي لجوء الزعيم إلى توريث الحكم لأحد أفراد أسرته ولكأنما بلاده مملكة من الممالك الوراثية.

nm9osdjddds-9+69s

والمعروف أن جمهوريات آسيا الوسطي وقعت، بعد انسلاخها عن الاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينات، في أيدي زعماء أحزابها الشيوعية المحلية الذين نصبوا أنفسهم رؤساء للبلاد وراحوا يستخدمون ما راكموه من نفوذ في زرع أقاربهم في مفاصل السلطة كي يضمنوا الفوز في الانتخابات المتعاقبة ويتحكموا في ثروات الوطن.
نجد تجليات ظاهرة الأسرة القوية الحاكمة والمتحكمة واضحة في أوزبكستان التي لم تعرف زعيما منذ استقلالها سوى الرئيس إسلام كريموف، فيما ابنته غولنارا كريموف تدير مؤسسة اقتصادية خاصة ذات نفوذ يتعدى الداخل إلى الخارج لجهة احتكار البزنس في قطاعات الاتصالات والمرطبات والغذاء والبناء والمنسوجات والطاقة والتعدين، وسط توقعات بإعدادها من قبل والدها لخلافته.
كما نجدها واضحة في جارتها طاجيكستان التي يديرها الرئيس إمام علي رحمانوف منذ عام 1992 بقبضة حديدية على راس نظام ديمقراطي الشكل، ستاليني المضمون بدليل فوزه في عام 2013 بفترة رئاسية رابعة مدتها سبع سنوات في انتخابات لم تشهد منافسة حقيقية وخلت من الدعايات والخيارات الانتخابية، الأمر الذي أفضى إلى تصويت 84% من المقترعين لصالح رحمانوف بوصفه الخيار الوحيد.
وإذا كانت قيرقيزستان تبدو مختلفة بعض الشيء لأن شعبها استطاع أن يطيح أولا بحكومة الرئيس عسكر آكاييف من خلال ثورة السوسن 2005 وأن يوصل زعيم المعارضة كرمان بيك باكاييف إلى السلطة، ثم نجح في عام 2010 في الإطاحة بالأخير بسبب استبداده وفشله في تلبية طموحات الجماهير الحقوقية والمعيشية، فإن نفوذ ابن الرئيس المخلوع مكسيم باكاييف، الذي عينه والده في عام 2009 رئيسا للجهاز المركزي للتنمية والاستثمار والاختراعات فسهل أمامه الطريق للوصول إلى الأموال العامة، لايزال قويا، وسط عجز الحكومة الجديدة عن استعادة الأموال العامة التي نهبها هو ووالده، خصوصا وأن تلك الأموال تم تهريبها إلى الخارج، ناهيك عن إقامة مكسيم في بريطانيا وتأثيره من هناك على الأوضاع في داخل بلده.
أما كازاخستان التي تصدرت الأنباء مؤخرا بعد قرار رئيسها نور سلطان نزارباييف (75 عاما)، تعيين ابنته داريغا نزارباييف (52 عاما) في منصب نائب رئيس الوزراء، وذلك في عمل وصفه المراقبون بالخطوة التي تمهد الطريق أمامها لخلافة والدها، فقصتها لا تختلف عن بقية جاراتها إلا في التفاصيل المملة.
فرئيسها نزار باييف الممسك بالسلطة منذ عام 1991، والذي فاز في إبريل الماضي بولاية جديدة مدتها خمسة أعوام، ليس لديه أبناء ذكور لكي يورثهم السلطة. ولهذا السبب كان رهانه على أصهاره في البداية، ولا سيما زوج ابنته الكبرى كاريغا، وهو رجل الأعمال راخات علييف الذي شغل في السابق منصب نائب مدير الأمن الداخلي وسفير كازاخستان في فيينا وكان شريكا لمليادير النفط راشد سارسونوف. لكن هذا الرهان اصطدم بحادثة قيام علييف باختطاف وقتل مصرفيين اثنين في عام 2007، ومن ثمّ الهرب إلى فيينا حيث توفي في فبراير الماضي داخل سجنه النمساوي أثناء انتظار محاكمته.
هذه الحادثة وما تردد على هامشها من أحاديث حول مخطط انقلابي كان يعده الصهر علييف للانقضاض على السلطة، ربما هي التي جعلت الرئيس نزارباييف يعيد حساباته، فيصرف النظر عن الرهان على صهره الآخر تيمور كوليباييف الرئيس السابق لصندوق الثروة السيادي والهيئة الوطنية للنفط والغاز، والشركة الوطنية للسكك الحديدية والمتزوج من ابنته الوسطى دينارا نزارباييف التي ظهرت مرارا على لائحة فوربس لأصحاب المليارات، ويعيد ابنته كاريغا إلى دائرة الضوء، علما بأن كاريغا كانت نائبة برلمانية منذ عام 2004، ثم اعتزلت السياسة بسبب فضيحة زوجها، وتفرغت لرئاسة جمعية والدها الخيرية حتى عام 2012. وبعد ذلك، عادت إلى البرلمان تحت راية حزب «أوتان نور» القريب من السلطة.
ونأتي أخيرا إلى آذربيجان التي تحقق فيها فعلا توريث السلطة من الرئيس السابق حيدر علييف الذي عمل مسؤولا عن المخابرات الروسية (كي جي بي) زمن الاتحاد السوفيتي قبل أن يستولي على السلطة في آذربيجان في عام 1993 إلى ابنه الرئيس الحالي إلهام علييف الذي تولى السلطة بمجرد وفاة والده في عام 2003 من خلال انتخابات وصفت بغير النزيهة، وكان قبل ذلك يتولى منصب نائب رئيس شركة سوكار النفطية الحكومية المسؤولة عن احتياطات آذربيجان من النفط والمقدرة بسبعة مليارات برميل.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *